العربي الجديد-
بعد مرور أكثر من شهر على فيضان مدرنة درنة الليبية، لا تزال جهود انتشال الجثث مستمرة، وإن بوتيرة أقل، خصوصاً بعد مغادرة فرق الإنقاذ الدولية البلاد، باستثناء الفرق المصرية التي تقوم حالياً بنقل الأنقاض من وسط المدينة، كما يقول سكان لـ “العربي الجديد”.
في العاشر من سبتمبر الماضي، ضربت العاصفة دانيال شرقي ليبيا وتركزت في الجبل الأخضر، وتسببت في غرق مدن عديدة قبل أن تؤدي إلى انهيار سدَّي أبو منصور والبلاد في وادي درنة واختفاء نحو ثلث المدينة وانجراف أجزاء كبيرة إلى البحر نتيجة السيول غير المسبوقة التي اجتاحت المدينة وغيرت الطبيعة الجغرافية للمنطقة.
ومنذ الأيام الأولى، تفاوتت تقديرات ضحايا الفيضان وغابت الإحصائيات الرسمية الدقيقة. وتتحدث التقديرات عن 10 إلى 15 ألفاً ما بين قتيل ومفقود، فيما أعلن رسمياً حتى الآن عن 4120 ضحية فقط، بحسب آخر إفادة مطلع الأسبوع الماضي.
وبحسب التصريحات يتبين أن انتشال الجثث اليومي بات بالعشرات وبوتيرة أقل من السابق. لكن استمرار عمليات الانتشال وعدم إقفال ملف المفقودين يعني استمرار أعمال المنقذين، سواء من المتطوعين أو من فرق الإنقاذ الحكومية.
ويلفت أحد أفراد هيئة السلامة الوطنية كريم عوض، إلى أنه مقارنة بالرقم المعلن من قبل المسماري، فإن أعداد المنتشلين لم تصل حتى إلى النصف، وهناك نحو 6000 لا يزالون إما تحت الأنقاض أو في البحر، لافتاً إلى أن العاملين في فرق الإنقاذ يدركون أن العمل لا يزال طويلاً، خصوصاً مع قرب عودة آخر الفرق الدولية القادمة من مصر.
وما يقلق عوض ورفاقه في فرق الإنقاذ هو تواضع الإمكانيات لدى الفرق المحلية، وأبرزها الوقاية الصحية. ويقول لـ”العربي الجديد”: “حتى وإن توفرت الألبسة الخاصة بأعمال الانتشال، إلا أن المتابعة والرعاية الصحية للعاملين تكاد تكون منعدمة، مع الإشارة إلى أن الفريق الطبي الفرنسي كان يوفر كشوفات دورية للعاملين”. يتابع: “المهمة تزداد صعوبة. لم نعد نبحث عن جثث بل أشلاء في الغالب، وليست لدينا الخبرة أو الإمكانيات لجمعها، وعادة ما يحصل الأمر بشكل عشوائي”. ويشير إلى أن “الإصابة بالغثيان باتت أمراً عادياً أثناء الدخول إلى كهف بسبب روائح الجثث. لكن المخاطر المصاحبة لاستخراج الجثث زادت بسبب وصولها إلى مراحل متقدمة من التحلل، في ظل الافتقار لأبسط مقومات الحماية الصحية”.
وبحسب شهادة أحد الغطاسين الذين ساهموا في جهود الانتشال نشرها على مواقع التواصل، فقد توفي أحد الغطاسين من الفرقة المالطية، بسبب انفجار بطن جثة كان يريد إخراجها من إحدى السيارات في عمق البحر.
في هذا الإطار، يُبدي عوض امتعاضه من عدم وجود اهتمام كاف من السلطات والمؤسسات المعنية بجهود الانتشال، الأمر الذي يتجلى في عدم التنسيق المباشر بين فرق الانتشال والجهات الصحية، لا سيما وزارة الصحة في الحكومتين. ويقول: “مثلاً، تتوفر الملابس من دون خوذات للرأس، ولم تهتم المؤسسات الصحية بتزويد رجال الانتشال بالنشرات الخاصة حول كيفية التعامل مع هذه الظروف الاستثنائية أو مثلاً ضرورة تلقي أمصال أو لقاحات معينة للحماية”، مشيرا إلى النقص الحاد في توفير المعدات الملائمة والزوارق والوقود والإعاشة.
ويؤكد عوض أن غالبية العاملين في جهود الانتشال، بل حتى المدربين منهم مثل فرق الهيئة العامة للبحث والتعرف على المفقودين “ليسوا مؤهلين للتعامل مع جثث غارقة منذ أكثر من شهر وتحول أغلبها إلى أشلاء رطبة، فالفرق المحلية لم تعرف مثل هذه الحوادث من قبل، وأقصى ما تعاملت معه كان جثثا يتم استخراجها من المقابر الجماعية”.
من جهة أخرى، تعاني فرق الإنقاذ من ظروف نفسية ناتجة في المقام الأول، بحسب الغطاس وخبير الإنقاذ الليبي والمشارك في عمليات الإنقاذ البحري بدرنة، مراد بن يونس، من التعامل مع جثث بشرية وصلت إلى مراحل متقدمة جدا من التمزق والتقطع والتحلل. ويشير إلى أن بعضها بات مشوهاً بسبب قوة الانجراف والارتطام بالحطام أثناء انحدار السيول، أو بفعل تأثير مياه البحر لأكثر من شهر، فضلا عن بعض الأشلاء والبقايا البشرية التي يتعاملون معها.
وفي وقت يتهم بن يونس المعنيين بالإهمال وعدم تحمل المسؤولية حيال فرق الإنقاذ، يوضح في حديثه لـ”العربي الجديد”: “حتى في فترات الاستراحة، باتوا يعيشون في ظروف سيئة ويتعاملون مع الأسر المكلومة بفقد أحبائها”. يضيف: “قد لا تستطيع تحمل مشهد خيبة أمل شاب يبحث عن وجه أمه المفقودة دون أمل، أو أب يبحث عن أسرته وسط أشلاء أو ملابس لا تحمل أي ملامح”، لافتا إلى أن الكثير من المتطوعين تركوا العمل على الرغم من النقص الحاد، بسبب عدم قدرتهم على مواجهة ما يعايشونه يوميا من آلام من دون أن يستطيعوا عزاء أولئك المكلومين”.