العربي الجديد-
لا يزال الفساد المالي والإداري ينخر مفاصل مؤسسات الدولة الليبية، وهو ما يساهم فيه الانقسام السياسي والانفلات الأمني، في الوقت الذي تعاني فيه نسبة كبيرة من الليبيين من نقص حاد في الكثير من الضروريات، وخاصة ذوي الدخل المحدود الذين يقارب دخلهم الشهري 900 دينار (180 دولارا)، بينما بلغ مجموع الإنفاق العام في ميزانية السنة الماضية 86 مليار دينار.
وفي محاولة للسيطرة على حجم الفساد، أطلق النائب العام، الصديق الصور، ومكتبه في طرابلس منذ العام الماضي، حملة تحقيقات في شبهات فساد طاولت حتى وزراء في الحكومات الماضية، ومديري مؤسسات كبرى، حُقِّق مع بعضهم، وحُبس آخرون بشكل احتياطي على ذمة التحقيق. ويبدو أن تركيز تحقيقات النيابة توجه خلال الأسبوع الأخير نحو السلك الدبلوماسي، حيث صدرت عن مكتب النائب العام عدة أوامر بالقبض والسجن الاحتياطي لمجموعة من الدبلوماسيين ورؤساء البعثات الدبلوماسية في الخارج والموظفين في السفارات.
وقررت النيابة العامة، الخميس الماضي، حبس رئيس بعثة سابق لليبيا لدى أوغندا بتهمة تحقيق منافع غير مشروعة بقيمة 760 ألف دولار، ومنع المراقب المالي في البعثة من أداء عمله. وحرّك النائب العام دعوى عمومية في مواجهة مسؤولين ببعثة جنوب أفريقيا، بتهمة الإضرار بالمال العام والمصلحة المعهودة إليهم، والتآمر مع آخرين لتسهيل حصولهم على عشرات الآلاف من النقد الأجنبي. وأصدر النائب العام، الخميس أيضاً، أمراً بحبسهم احتياطياً، وإحضار متهمين آخرين مدونين لدى النيابة.
وقبيل ذلك، أصدرت النيابة حكماً بالحبس الاحتياطي لثلاثة من رؤساء البعثات الليبية سابقين في أوكرانيا وبعض معاونيهم.
وبعد الاستجواب اتُهموا جميعاً بالتعدي على مخصَّصات تقديم الخدمة الطبية، ومخصصات الإيفاد للدراسة في الدولة، وتحصيل مئات الآلاف من النقد الأجنبي لأنفسهم ولغيرهم بالمخالفة للتشريعات.
وفيما يرحب الأكاديمي والخبير الاقتصادي، عبد السلام زيدان، بنشاط النيابة العام في ملف الفساد، إلا أنه يرى أن تركيز النشاط في ملاحقتها دواوين ودوائر البعثات الدبلوماسية سيلتهم جهود التحقيقات. وقال في حديث لـ”العربي الجديد” إن “هذه الجهود سيدعمها الرأي العام في البلاد، وستخيف قطاعاً عريضاً من المتورطين في الفساد، لكن الخوف كل الخوف من ذهاب التحقيقات في الاتجاه غير الصحيح”.
وأوضح زيدان رأيه بالقول إن أغلب المال الفاسد هناك “مقنن”، وذلك عبر المبالغة الكبيرة في حجم التمثيل الدبلوماسي والموظفين بالسفارات والقنصليات في مختلف دول العالم”، مضيفاً أن “هناك عشرات الآلاف من الليبيين، يعملون في سفارات دول أغلبها لا تربطنا بها صلات كبيرة، ولا يستدعي التبادل الدبلوماسي معها أكثر من بضع موظفين، فيما نسمع أن أعداد المبعوثين للسفارات المختلفة بات يزيد على المئات في كل سفارة أو قنصلية، وهذا يكلف الخزانة العامة أموالاً طائلة تصرف بالعملات الأجنبية. هذا بالإضافة إلى الجولات السياسية الخارجية التي كثيراً ما يكون بها أعداد مبالغ فيها من المرافقين، فضلاً عن الاجتماعات والندوات وحتى ورش العمل التي يعقد جزء كبير منها خارج ليبيا، وتثقل كاهل الدولة بالمصاريف الزائدة”.
لكن الناشط المدني، رمزي المقرحي، يرى أن “ما يُنهَب عبر البعثات الخارجية هو مال الدولة، وسواء نهب في الداخل أو الخارج يبقى مال الدولة، ويجب الحد من نهبه بأي صورة”.
ويوافق المقرحي، خلال حديثه لـ”العربي الجديد”، على ضرورة أن يتوجه شطر من جهود ملاحقة المتورطين في ملف الفساد للداخل، “خصوصاً في القطاعات الخدمية المتصلة بحياة المواطن، كالكهرباء والنفط والجمارك والبنوك والتعليم وغيرها”، لكنه في ذات الوقت يرى أن أوامر القبض التي صدرت أخيراً من مكتب النائب العام تُعَدّ خطوة متقدمة.
وقال إن “الخطوة مهمة لكونها اتجهت للتصعيد ضد المتورطين في الفساد، فلأول مرة نسمع بأوامر قبض على المسؤولين في الصفوف الأولى في المؤسسات، والأوامر السابقة كانت بحق مسؤولين من الصف الثاني والثالث”.
وكشف تقرير ديوان المحاسبة السنوي عن العام الماضي، الصادر في الأول من أكتوبر الجاري، عن ارتفاع الرواتب السنوية للدبلوماسيين العاملين في البعثات الدبلوماسية الليبية بالخارج خلال عام واحد بنحو نصف مليار و44 مليون دولار، فيما كانت 256 مليون دولار فقط خلال عام 2020، بالإضافة إلى توظيف المئات من الموظفين في البعثات من خارج قطاع العمل الدبلوماسي.