* كتب/ الدكتور جمعة محمود الزريقي
حرصاً على وقتكم واهتمامكم بهذا الموضوع الذي شغل الكثيرين من المهتمين بالشأن العام، أقسم المحاضرة إلى عدة محاور سأتناولها باختصار حتى تتاح لكم فرصة التعليق والزيادة والاستدراك
أولا: مكانة السلطة القضائية بين السلطات ودورها في القضاء الدستوري
يمكن تعريف السلطة القضائية بأنها كافة الأجهزة التي ينشئها القانون ويسند إليها مهمة الفصل في المنازعات والجرائم ، وتتميز باستقلالها عن بقية السلطات، لأن الفقه المعاصر قد استقر على أن القضاء سلطة لا وظيفة، وأن استقلال القضاء هو الذي يعطي الضمانات لحقوق الناس وحرياتهم الشخصية، وقد جاء في أحد مبادئ المحكمة العليا: “مما لا ريب فيه أنه وفقا للأصول الدستورية تًعد السلطة القضائية هي المختصة دون غيرها بمزاولة تطبيق القانون على الخصومات التي ترفع إليها؛ فولايتها أصليّة وكاملة، والدستور وحده هو الذي يملك تقييد ولاية القضاء باعتباره إحدى سلطات الدولة (طعن إداري رقم 1 / 19 ق 10/6/1972م).
وأن مبدأ الفصل بين السلطات قد نص عليه في الدستور الليبي السابق الصادر سنة 1951م كما نص عليه في الإعلان الدستوري الصادر سنة 1969م، وأعيد النص عليه أيضا في الإعلان الدستوري القائم حاليا والصادر سنة 2011م، وهذا المبدأ يجب احترامه، وعلى السلطات الثلاث التقيد به والتعاون فيما بينها من أجل تحقيق المصالح التي يرمي إليها الدستور والحقوق التي ينص عليها، ومصالح الشعب التي وردت فيه، وطبقا لما قال به كبير فقهاء القانون، الأستاذ السنهوري –رحمه الله– فإن السلطة القضائية هي الرقيبة على بقية السلطات، وبالتالي فإن انحراف السلطة التشريعية يتم معالجته بالرقابة القضائية على التشريعات، وعند انحراف السلطة التنفيذية أو مخالفتها فتكون الرقابة عليه من قبل السلطة القضائية عن طريق الطعون الإدارية. وهكذا تبسط السلطة القضائية على بقية السلطات من أجل احترام القانون وكفالة الحقوق وتنظيم سير العدالة داخل الدولة
ثانيا: تنظيم المحكمة العليا ووظيفة الجمعية العمومية للمحكمة والدوائر المجتمعة
نظم القانون رقم 6 لسنة 1982م الصادر عن مؤتمر الشعب العام بإعادة تنظيم المحكمة العليا الذي نص على أن تتكون المحكمة العليا من دوائر تتولى كل منها نظر موضوع معين من الدعاوى التي تختص المحكمة العليا بالفصل فيها، ويجوز أن تتعدد الدوائر بقدر الحاجة، وقد نصت المادة 23 على اختصاصات المحكمة العليا منعقدة بدوائرها المجتمعة بالفصل في المسائل الآتية: الطعون في أي تشريع يكون مخالفاً للدستور، بدعوى مبتدأة أو من خلال مسألة جوهرية تتعلق بالدستور أو بتفسيره في قضية منظورة، ثم تنازع الاختصاص بين المحاكم أو أية جهة قضاء استثنائي، أو النزاع الذي يثور بشأن تنفيذ حكمين نهائيين متناقضين أو تحديد القانون الواجب التطبيق، ثم العدول عن مبدأ قانوني قررته أحكام سابقة بناء على إحالة الدعوى من إحدى دوائر المحكمة.
ونص القانون على أن تشكل الدوائر المجتمعة من عدد كاف من المستشارين بقرار من الجمعية العمومية، على أن يكون من بين أعضائها مستشار من كل دائرة من دوائر المحكمة على الأقل، وقد نصت المادة 51 فقرة (1) على أن تتألف الجمعية العمومية للمحكمة العليا من رئيسها وجميع مستشاريها ورئيس نيابة النقض أو من يقوم مقامه، أما الفقرة (2) فقد نصت على أن تختص الجمعية العمومية دون غيرها على (أ) المسائل المتعلقة بنظام المحكمة وأمورها الداخلية، (ب) الشؤون المالية والإدارية المتعلقة بالمستشارين وأعضاء نيابة النقض (ج) توزيع الأعمال على أعضاء المحكمة وبين دوائرها المختلفة (د) الأمور التي تدخل في اختصاصاتها بمقتضى هذا القانون.
ثالثا: قرار الجمعية العمومية بتأجيل البت في الطعون الدستورية ومدى مشروعية القرار
لقد أصدرت الجمعية العمومية للمحكمة العليا القرار رقم 7 لسنة 2016م جاء فيه ما يلي: ” يؤجل البت في الطعون الدستورية إلى أجل يحدد فيما بعد بقرار من الجمعية العمومية وتتولى الدائرة نظر باقي الطعون المتعلقة بطلب العدول عن المبادئ أو تحديد المحكمة المختصة أو التنازع في الاختصاص، وعلى الجهات المختصة تنفيذ هذا القرار ويعمل به من تاريخ 9 / 10 / 2016م) صدر في 5/10/2016م.
إن هذا القرار يمثل سابقة خطيرة في مسيرة القضاء الليبي وخاصة بعد قيام ثورة 17 فبراير التي جاءت لتخليص البلاد من حكم الفرد، كانت هناك سابقة عندما صدر القانون رقم 6 لسنة 1982م حيث لم ينص على اختصاص المحكمة بالفصل في الطعون الدستورية، واستمر ذلك الحظر مدة عشرين سنة، ولكنه تم في ظل نظام عسكري في واقع الأمر، رغم الهيكل الذي يبدو في شكل الأجهزة التي كانت ظاهرة للعيان من المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية إلخ .
لقد تم الطعن في هذا القرار بتاريخ 23/7/2018م أمام القضاء الإداري في محكمة استئناف طرابلس، وقضت فيه بإلغاء هذا القرار لأنه مخالف للقانون، وليست للجمعية العمومية صلاحية وقف اختصاص أسنده المشرع للمحكمة العليا، ولكن المحكمة العليا أو بالأصح من يتولى الأمر فيها رفض تنفيذ هذا الحكم حتى الوقت الحاضر. واستمر وقف النظر في الطعون الدستورية حتى هذا الوقت، رغم أن كتابة المحكمة تقبل الطعن وتسجله وتباشر الإجراءات الأولى مع الخصوم دون تحديد جلسة للنظر في الطعن، ورئيس المحكمة العليا هو الذي يتولى رئاسة الدوائر المجتمعة وهو الذي يقوم بتحديد الجلسات والطعون التي يتم الفصل فيها .
رابعا: الأثر الذي انعكس على الواقع في ليبيا ودوره في الوضع السياسي القائم والتخبط الذي تعيشه الدولة
والآن بعد مرور أكثر من عشر سنوات على قيام ثورة التصحيح 17 فبراير 2011 م لازالت البلاد تعاني من الانقسام السياسي والتشظي في جميع المجالات، فبعد فترة استقرار بسيطة دامت سنتين تقريبا، صارت للدولة الليبية عدة حكومات، بل أصبحت فيها حكومتان في الغالب، وانقسمت السلطة التشريعية، وكذلك السلطة التنفيذية، وإن كانت السلطة القضائية ظلت متماسكة ظاهريا، ولم يقم فيها الانقسام، ولكنها لم تتصد لهذه القوانين والقرارات التي تصدر عن هذه الأجسام المتصارعة، والتي يحركها الخلاف السياسي والتناحر القبلي، وتدخل المجتمع الدولي نتيجة لذلك، والسلطة القضائية باتخاذها هذا الموقف السلبي والمخالف للقانون قد غرست رأسها في التراب كما يقال؛ بعدم الفصل في الطعون المقدمة إليها، فأسهمت وبشكل كبير في استفحال الخلاف، وانقسام البلاد، ونقص الخدمات وضياع مصالح الناس وعدم الحصول على حقوقهم، وتوقف دولاب الدولة، كل ذلك من أثر انهيار سلطات الدولة الثلاث، التشريعية وانحرافاتها الكثيرة، والتنفيذية بكثرة مخالفاتها، والقضائية التي تركت الحبل على الغارب؛ فلم تمارس وظيفيتها في التصدي للنزاعات والفصل في الطعون، فأضحت البلاد تعاني من الفوضى الكبيرة، وتكاثر أهل النفوذ؛ مما أتاح للدول الكبرى التدخل في شؤونها الداخلية .
قمت بالكتابة في هذا المجال، ونصحت زملائي بالعدول عن هذا القرار، والشروع في نظر الطعون الدستورية المقدمة إليهم؛ عسى أن يسهم ذلك في حلحلة الوضع القائم، وإنهاء الخلافات المستفحلة بين متصدري المشهد السياسي المنضوين تحت غطاء الدول المتدخلة في بلادنا، ولكن دون جدوى، وسألت أحد زملائي في المحكمة العليا، لماذا هذا القرار؟ فقال: خوفا من الاضطراب السياسي وزيادة الخلاف والمشاكل، لم أقتنع برأيه آنذاك، والآن يمكن سؤاله: هل وقف عمل الدائرة الدستورية خلال ست سنوات مضت حتى الآن أسهم في حل المشاكل أو خفف من وطأتها؟ أو استقر أمر البلاد بعد ذلك؟ الجواب بالنفي طبعا؛ لأن البلاد زاد فيها الخلاف واستمر، والضحية فيه هو المواطن الذي يعاني مصاعب عديدة بما يدل على أن قرار تأجيل البت في الطعون الدستورية لم يحل المشكلة بل زاد في استفحالها .
ختام القول في هذا الموضوع، إن ما قررته الجمعية العمومية للمحكمة العليا بشأن تأجيل البت في الطعون الدستورية، وهو في حقيقته وقف طالما امتد حتى الآن لمدة ست سنوات، وهو قرار مخالف للقانون وفقا لنص المادة 23 من قانون المحكمة العليا رقم 6 لسنة 1982م وتعديلاته، ومخالف للمبدأ الذي قررته المحكمة العليا نفسها من أن الدستور وحده هو الذي يمكن أن يقيد السلطة القضائية، وهذا القرار قيد الدوائر المجتمعة في تنفيذ اختصاصاتها بالفصل في الطعون الدستورية، وبهذا تكون الجمعية العمومية قد أهدرت القانون والمبادئ التي سبق وأن قررتها سابقا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** محاضرة ألقيت في كلية القانون بمصراتة يوم الخميس 30/6/2022م الساعة العاشرة صباحا