العربي الجديد-
رغم آمال الليبيين في إنهاء المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات في البلاد، مازالت الرؤى المختلفة تعطل الطريق المؤدي إلى صناديق الاقتراع، من دون أمل قريب في التوافق. فمجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لم يتفقا على قوانين الانتخابات، العام الماضي، كما هو الحال خلال العام الحالي الذي يوشك على نهايته.
وبعد قرابة العام من فشل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في ديسمبر الماضي، لا يزال مجلسا النواب والدولة لم يتوصلا حتى الآن إلى التوافق على قاعدة دستورية تفضي إلى إجراء الانتخابات.
وفي الوقت الذي كان الجميع ينتظر توافقاً ما، خرج المجلسان بمسألتين جديدتين شددا على ضرورة حسمهما قبل إقرارالقاعدة الدستورية للانتخابات، وهما طريقة تنصيب المسؤولين في المناصب السيادية، وتوحيد السلطة التنفيذية المتشظية بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس برئاسة عبدالحميد الدبيبة، والأخرى المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا.
“خصام حول سعر سلعة”
وبخصوص تحميل المجلسين مسؤولية هذا التشظي والتأخر في ملف الانتخابات، يعتبر عضو مجلس الدولة، أبو القاسم قزيط، أن ذلك “أمر غير منصف”، مضيفاً في حديث لـ”العربي الجديد”: “هناك حاضنة مسلحة وسياسية واجتماعية وقبلية في الغرب والشرق لديها مطالب متناقضة، وبالتالي سيظل التوافق عسيرا جدا، طالما تشبث كل طرف برأيه دون النظر للمصلحة العامة”.
وتابع قائلا: “كما أن البعض مستفيد من حالة التشظي هذه فيشترط ضمان استمراره قبل أي إحراز تقدم سياسي”، معتبراً أنه “إن كان ذلك ينطبق على السياسيين فإنه يشمل المسلحين بشكل أكثر، لأنهم يمثلون القوة الفعلية في الشرق والغرب، ويحولون دون أي توافق”.
وشدد قزيط بالقول “لا يصح القول إن المجلسين لم يتوافقا، بل الليبيون هم من لم يتوافقوا”، موضحا أنه يقصد بالليبيين “داعمي المجلسين من المسلحين والقوى السياسية والقبلية والاجتماعية”.
وكمثال على ذلك، استحضر “مطالب غرب ليبيا في أن يكون حفتر خارج المشهد السياسي والعسكري. وفي المقابل مطالب الشرق في أن يكون حفتر أبو الجيش وليس قائده فقط، ومن الصعب جدا التوفيق بين المطلبين، الأمر أشبه بخصام حول سعر سلعة، وفي مثل هذا الخصام من الصعب جدا الوصول إلى تسوية ترضي الطرفين”.
وفيما يخص المناصب السيادية، يضيف قزيط: “قوى غرب البلاد يريدون منصب محافظ المصرف المركزي، ورؤساء ديوان المحاسبة، والرقابة الإدارية، بالإضافة إلى منصب رئيس الحكومة، ووزارتي الدفاع والمالية. وفي المقابل، ترى القوى في شرق البلاد أن الغرب يستأثر بمقرات المؤسسات السيادية ثم يطالب برئاستها”.
وقال قزيط إنه تحدث “مع خبراء من الشرق يرون في هذا الأمر إجحافاً واستبعاداً لمبدأ الشراكة في الوطن”، مضيفاً “وتبعاً لذلك أرى أن التوافق صعب جداً، والمشكلة ليست في المجلسين، والدليل هو عدم توافق حتى أعضاء ملتقى الحوار السياسي على المسار الانتخابي، رغم توحيدهم حينها للسلطة التنفيذية، ومع أن ثلثي أعضاء الملتقى كانوا من خارج المجلسين”.
ولا يرى قزيط صعوبة في توافق المجلسين على حكومة كما فعل الملتقى، لكنه يحذّر من “الاستعصاء” الذي قد يلي ذلك. ويكمل موضحاً “كل فريق يريد تصميم قواعد اللعبة على هواه، حتى يضمن الفوز. فقوى غرب البلاد تريد انتخابات تقصي خليفة حفتر وسيف القذافي. ومن هذا المنطلق فإن المطالب متناقضة، وحالة الاستقطاب يتم تغذيتها بالمال، ونحن نسير نحو المسار الخاطئ، ولو استمر الأمر بهذا الشكل لن نصل إلى قاعدة دستورية حتى بعد سنوات طويلة”.
ويتابع عضو المجلس الأعلى تشخيصه للوضع الراهن بالقول “هناك مجموعات تصر على إنهاء أمر القاعدة الدستورية أولا، وقبل الخوض في أي ملف شائك آخر، وفي الظاهر تبدو هذه المجموعات أحرص الناس على التوافق، ولكن في الواقع هم الأقل حرصا عليه، كما أن بعض هذه المجموعات تربطهم علاقات مع الحكومة والمصرف المركزي، وهذا مبعث لشكوك بأن ما يطالبون به قد لا يراد منه مصلحة الوطن”.
وفيما يؤيد قزيط التركيز على القاعدة الدستورية، يرى ضرورة وجود “مرونة في التوافق أولاً، واستبعاد الشروط التي وُجِدت لتعقيد المسار”.
ومن جانب المجلس الأعلى للدولة، يؤكد قزيط وجود نية لـ”عقد جلسة لمجلس الدولة من أجل بحث مسألة المناصب السيادية”، لكنه يتهم حكومة الوحدة الوطنية بعرقلة ذلك.
وأشار إلى أن الحكومة عرقلت ثلاث جلسات سابقة للمجلس، وقال “شخصيا أتمنى أن تسير ملفات: القاعدة الدستورية والمناصب السيادية والحكومة، بالتوازي وليس بالتوالي. وفي اعتقادي اشتراط الوصول للقاعدة الدستورية أولا هو وضع للعصا في الدولاب، ولا معنى للسير نحو قاعدة نعلم مسبقا أنها لن ترضي الطرف الآخر، ولهذا يجب على كل الأطراف تقديم التنازلات”.
تآكل الشرعية السياسية
من جانبه، يعتقد الباحث والمحلل السياسي، فرج فركاش، أن المشكلة الحقيقية الآن تكمن في تآكل الشرعية السياسية لجميع الأجسام والمؤسسات الحالية، معتبرا أن الحل في تجديد هذه الشرعية.
وقال متحدثا لـ”العربي الجديد”: “الطريقة الوحيدة لذلك، كما نصت خارطة الطريق المتفق عليها من قبل الليبيين والتي تمت صياغتها من قبلهم برعاية الأمم المتحدة، هي عبر صناديق الانتخابات، ولهذا يجب أن تأخذ القاعدة الدستورية للانتخابات الأولوية القصوى”.
وفي منظور فركاش، فإن “مماطلة الأجسام الحالية، خاصة مجلسي النواب والدولة، في التوافق على القاعدة الدستورية المنتظرة يصب في صالح تمديد بقاء هذه الأجسام”.
وفيما يعتبر فركاش أن الأجسام السياسية الحالية أصبحت عبئا على البلاد رغم أن أطياف الشعب تنبذها، إلا أنه يركز في نقده على طريقة تعاطي مجلس النواب مع الأزمة، معتبرا أنه ساهم في زيادة الانقسام والتشظي.
وقال “آخرها خطوة مجلس النواب العبثية في تشكيل حكومة (التي يترأسها باشاغا) أصبحت كما توقعنا موازية، وأعادت عقارب الساعة خلْفاً إلى أيام حكومة الوفاق الوطني والحكومة المؤقتة المكلفة من مجلس النواب، مع مزيد من الانقسام التنفيذي والمؤسساتي، كما أنها عطّلت مساعي توحيد مصرف ليبيا المركزي، وكادت أن تقسم ظهر السلطة القضائية، بالإضافة إلى تداعياتها على تأخر ملف توحيد المؤسسة العسكرية”.
ويفضّل فركاش “ترك ملف المناصب السيادية لأجسام منتخبة تمتلك شرعية مباشرة من الشعب”، معتبرا أن الإصرار على تغييرها الآن “يُراد منه السيطرة والنفوذ، من أجل البقاء في السلطة، أو لرسم الخارطة السياسية المستقبلية لليبيا من قِبل أجسام انتهت شرعيتها الانتخابية”.
وحذر كذلك من أن “تغيير هذه المناصب من خلال المحاصصة الجهوية والإقليمية سيسنّ سنّة سيئة للأجيال القادمة، بحيث مثلا أنه في المستقبل ومهما بلغت مؤهلات وخبرة مواطن ليبي من منطقة أو إقليم ما، لن تتاح له الفرصة أن يشغل منصبا سياديا بحكم جهويته”.
ومن هذا المنطلق، يشدد فركاش على ضرورة أن “يُختار شاغلو المناصب السيادية وفقا للكفاءات التي تزخر بها جميع مناطق ليبيا”. ويختم محذراً: “لا يجب أن تكون المناصب مرهونة للانتماء السياسي أو الجهوي، ويجب إبعادها قدر الإمكان عن المماحكات السياسية”.