* كتب/ عطية صالح الأوجلي،
لم يمض من الوقت طويلا حتى اكتشف قادة الدول الافريقية المستقلة حديثا مرارة الواقع الذي خلفه الاستعمار وأحيانا صنعه بخبث ودهاء لهم. فبعد انتفاضة العديد من الدول الإفريقية في منتصف القرن الماضي من أجل الاستقلال وخوضها لصراع مكلف ومرير من أجله… تحصلت هذه الدول على استقلالها وأصبحت لها رموز السيادة من اسم وعلم ونشيد وقوات …
اكتشف قادة هذه الدول أنهم في حقيقة الأمر في ورطة ذات أبعاد وتداعيات خطيرة… فحكم البلاد يحتاج إلى أكثر من مجرد مقاتلين وبنادق وأنهم لا يملكون لا الخبرة ولا العناصر المؤهلة ولا المال لإدارة هذا الكيان الجديد بكفاءة واقتدار.
فالكيان السياسي الجديد بحاجة إلى زعامة سياسية متفق عليها وتوجه سياسي مقبول من الناس وجهاز إداري وخطط عمل وتخطيط اقتصادي ومصرف مركزي وعملة جديدة وجمارك وعلاقات دولية وخطط تعليمية وانشاء وإدارة الموانئ والمطارات والعيادات والمصحات… وهي أمور لم يكن من الممكن الإعداد لها في سنوات النضال بل لم يكن من الممكن حتى التفكير فيها… حيث كانت كل الجهود قد انصبت على الانتصار في المعركة ونيل الاستقلال.
ورغم الاختلافات في تجارب هذه الدول إلا أنها قد واجهت كلها أمرين…الأول … الإدراك بصعوبة وربما استحالة إدارة هذا الكيان الجديد اعتمادا على القدرات الذاتية وعلى عناصر لا تملك سوى بعض الخبرات القتالية … وأنه لا بد من الوصول الى صيغة ما مع المستعمر السابق للحصول على تعاونه في تسيير الدولة وفي الانتقال التدريجي للسلطة الحقيقية.
والأمر الثاني… ضرورة ايجاد صيغة لعودة اولئك الموظفين الذين كانوا يعملون في الإدارة إلى مناصبهم رغم سلوكهم المشين أثناء حكم الاستعمار… فكبار موظفي المناجم والشركات والمصارف والمستشفيات والمدارس والوزارات بل وحتى الأجهزة الأمنية عادوا إلى مواقعهم رغم احتجاج جزء لا بأس به من الثوار … فالواقع الجديد ووطأة التآكل والانهيار الذي بدأت ملامحه واضحة في عهد جديد لم يسهم الثوار في صنعه وإنما كان إرث قد خلفه المستعمر لهم … كل ذلك دفع بقادة الثوار إلى تجرع هذا الدواء المر.
اكتشف القادة الجدد استحالة الاستمرار في السلطة دون هذين الأمرين … وأنه ثمة اختلاف كبير بين أن تقوم بانتفاضة مسلحة وتنتزع السلطة … وبين تأسيس وإدارة دولة … بالطبع أدت هذه التغيرات إلى بروز خلافات كبيرة بين قادة الثوار وأحيانا إلى تنازعهم واقتتالهم … كما أدت إلى عودة النفوذ الأجنبي من الشباك … وأحيانًا من الباب وبشروط مريحة وآمنة له.
هذه الصورة لم تكن غائبة عند بعض القادة بل حاولوا قدر جهدهم الإفلات من هذا الأخطبوط عبر البحث عن وسائل بديلة كتبني نظام سياسي واقتصادي مغاير لما كان عليه الأمر أيام الاستعمار…. فكانت الدعوات إلى تبني الاشتراكية والفكر الثوري والاعتماد على الذات تجد لها صدى عند هذه الثورات الشابة … وحقق البعض منها درجات من النجاح … ولعل أجرأ تلك المحاولات هي التي قادها الزعماء التاريخيين لغانا وغينيا … كوامي نكروما وأحمد سيكاتوري اللذان اتفقا على توحيد النضال وعلى تبني البديل الاشتراكي وعلى قيام وحدة بينهما تكون نواة لاتحاد إفريقي حر ومستقل يعتمد على قواه الذاتية …
التقى نكروما وتوري في كوناكري عاصمة غينيا في نوفمبر عام 1958، للبحث عن سبل الرد على قيام الدول الاستعمارية بسحب الموظفين وإيقاف المعونات … فكان الإعلان عن قيام اتحاد الدول الإفريقية المستقلة في الأول من مايو عام 1959 ….. أعلنت الدولتان عن نيّتهما تأسيس عملة مشتركة (والتخطيط لتأسيس مصرفٍ اتحاديّ ومجلسٍ اقتصادي اتحادي أيضًا) وجنسيّة مشتركة، لكن الاتحاد لا يشمل توحيد أحكام سياستي الدفاع والخارجية تجاه الدول الواقعة خارج القارة الإفريقية. وفي يوليو من عام 1961 انضمت دولة مالي إلى هذا الاتحاد وبالتالي أصبح فيه ثلاثة أعضاء.
واجه الاتحاد سلسلة من المشاكل الكبيرة منذ تأسيسه. فغياب التواصل الجغرافي بين غانا عن غينيا أدى إلى غياب التنقل الحر بين البلدين وكذلك الاختلافات اللغوية والتاريخية وامتناع عدد من الدول الإفريقية المجاورة عن الالتحاق بالاتحاد وصعوبة إدارة الاتحاد الجديد في غياب الخبرة والعناصر المؤهلة والصراع على السلطات والصلاحيات بين الحكومة الفيدرالية وأعضائه …. وفي مايو 1963 تم الإعلان عن حل الاتحاد… وهكذا انتهت أول تجربة في اتحاد الدول الإفريقية لتترك دروسا قيمة لمن يريد أن يستفيد منها.
أثبتت مسيرة الاستقلال في إفريقيا خطورة وصعوبة وجدية التحديات التي تواجه هذه الشعوب من أجل بناء دولة حديثة تقوم على بناء مؤسسات قابلة للحياة وللاستمرارية … فغياب التجربة والافتقار للعناصر المؤهلة وصعوبة الانتقال من مجتمع قبلي عشائري إلى مجتمع حديث قائم على فكرة المواطنة … وصعوبة الانفكاك من النظام الاقتصادي والسياسي الذي صممه وخلفه الاستعمار بشكل يجعل هذه البلدان مرتبطة به اقتصاديا ويجعلها منتجا لمواده الخام وسوقا لبضائعه… كل ذلك يتطلب من النخب الإفريقية إلى إدراك أن بناء الدولة هو أصعب عمل إنساني وأنه مسيرة طويلة وشاقة وذات مراحل … وأنها ليست مجرد قرار ونشيد وعلم.