الرئيسيةالراي

رأي- ثورة فبراير الليبية: بين حلم الحرية وكابوس الواقع

* كتب/ عمر السويحلي،

بعد أربعة عشر عامًا من اندلاع “ثورة 17 فبراير”، يجد المواطن الليبي العادي نفسه أمام واقع أكثر قسوةً وتعقيدًا مما كان عليه قبل سقوط النظام السابق. لقد كان الأمل يومها في الحرية، العدالة، الكرامة، وتحسين مستوى المعيشة، لكن ما تحقق على الأرض لم يكن سوى صدى مشوه لذلك الحلم.

اقتصاديًا، انهارت القدرة الشرائية للعملة الليبية بشكل كارثي، فبينما كانت الأسعار قبل الثورة في متناول يد المواطن البسيط، أصبحت اليوم عبئًا ثقيلًا يفوق دخله بأضعاف. الرواتب زادت شكليًا، لكنها فقدت معناها أمام تضخم الأسعار وتراجع الدينار.

أمنيًا وسياسيًا، تحوّلت البلاد إلى ساحة صراع بين أمراء الحرب، وحكومات متناحرة تتقاسم النفوذ والفساد، وسط غياب مؤسسات فعالة وضعف القضاء، واستمرار العمل بقوانين جائرة من عهد القذافي.

اجتماعيًا، تفاقمت أزمات الصحة والتعليم والسكن، وتفشت البطالة والتهجير القسري، وانهارت القيم وتدهورت الأخلاق في المجال العام، وأصبحت ليبيا بيئة طاردة لأبنائها، وجواز السفر الليبي بلا قيمة تُذكر.

أما من كانوا وقود الثورة –الشهداء والجرحى والمهمشين– فقد تُركوا بلا إنصاف، بينما تصدّر المشهد طحالب النظام السابق وأزلامه. عادوا للواجهة تحت شعارات جديدة، وأسماء مموّهة، وبوجوه كانت غائبة عن الميدان يوم أز الرصاص.

الثورة لم تكتمل، بل توقفت عند لحظة إسقاط القذافي، ثم اختُطفت، وحُوّلت إلى صراع مصالح بين فاسدين وانتهازيين جدد وقدامى. وهكذا، تحوّلت “فبراير” من ثورة شعب إلى غنيمة ينهب تحت شعاراتها الوطن.

إذا كانت الثورة تعني القضاء على الظلم وإقامة نظام عادل يُحقق كرامة المواطن، فإن فبراير –حتى اليوم– لم تكن ثورة مكتملة، بل حركة ناقصة ما زالت بحاجة إلى جولة ثانية… ثورة تُطهر ولا تُجمّل، تُعيد الحقوق ولا تُقنّن الاستبداد بوجوه جديدة

لنفصل أكثر حتى تتضح معالم المشهد.

قبل الثورة… كان الخبز بخمسة قروش، واليوم بنصف دينار  وكيلو اللحم كان بعشرة دينار واليوم بتسعين دينارا..

في عهد الطاغية معمر القذافي –رغم ظلمه واستبداده– كنا نشتري بخمسة وعشرين قرشًا خمسة أرغفة خبز، وندخل “الجمعية” فنخرج بحمولة تكفي أسرة كاملة: عبوة زيت، سكر، دقيق، صناديق معجون طماطم، صناديق زيت ذرة، مكرونة، كيس أرز متوسط، ومكملات غذائية أخرى… وكل ذلك مقابل 70 دينارا فقط، وكانت الدولة توفر لشعبها سيارات جديدة بأسعار مقبولة للمواطنين.

أما اليوم، في ظل “الحرية” الموعودة، نفس هذه المشتريات تكلف في الكريمية أكثر من 1000 دينار!

صحيح، زادت المرتبات والمعاشات التقاعدية بالدينار الليبي ربما خمسة أضعاف، لكن القدرة الشرائية للدينار انهارت إلى أقل من العُشر، ومن ثم أصبحت الزيادة شكلية لا تسمن ولا تغني من جوع، وبعد الثورة أصبحنا نستورد السيارات القديمة غير الصالحة للاستعمال وغير الآمنة على الطرقات، مع ارتفاع مخيف في أسعار قطع الغيار الأصلية.

فما الذي قدمته الثورة للمواطن الليبي البسيط؟ وما الذي جنته ليبيا من استشهاد الآلاف من شبابها طمعاً في السخاء والرخاء والاستقرار؟

أعادت لنا الثورة علم الاستقلال ونشيده الوطني… لكن ماذا بعد؟

المواطن اليوم:

  • ليس أفضل حالًا اقتصاديًا.
  • ليس أكثر أمنًا.
  • ليس أصحّ بدنيًا.
  • وليس أعلى تعليمًا.
  • قلق على حاضره، خائف على مستقبل أولاده.

الواقع بعد الثورة يمكن تلخيصه في معادلة مرعبة:

فقر + مرض . جهل . خوف. معتقلات سرية وعلنية. وأجهزة أمنية ترعب المواطنين. بنادق للإيجار لا تعرف الخطوط الحمراء. حكومة فاسدة جداً.

تراجع في الحريات، تراجع في  العدالة، تراجع في مستوى الأمن، شح في  السيولة، أزمة سكن وارتفاع الإيجارات وغياب اليقين في المستقبل.

جواز سفر بلا قيمة وصعوبة بالغة في الحصول على تأشيرات، وهبوط مستمر في قيمة الدينار.

في زمن الثورة كنا نقول (ارفع رأسك فوق أنت ليبي حر) ولكن هل فعلا حققت الثورة للمواطن الليبي الحرية التي طالما صدح وتغنى بها؟

إذا سألنا المواطن الليبي اليوم:

هل ندمت على دعمك للثورة؟

هل تحقق ما تشوقت له خلال الثورة؟

الإجابة لا. لابد أن نواجه أنفسنا ونقولها بكل صراحة، على الأقل في حاضرنا ومستقبلنا القريب، إذ لا أمل يومض في الأفق، وحتى الآن لا ضوء في نهاية النفق. سيظل الحفاترة يعبثون بشرق ليبيا، والدبيبات بغربها، وهما على اتفاق تام بنهب متواز لثروات البلاد، وكتم الأفواه والقضاء على الحريات، وسيعود أزلام وطحالب القذافي للتحكم بمفاصل الدولة وإعادة استنساخ نظام القذافي الأمني وبطشه، سيسعى الدبيبة للبقاء فوق سدة الحكم مهما بلغت التكلفة، ومهما زادت معاناة الشعب، ولن يختلف الأمر مع الحفاترة. ومع مباركة الأمم المتحدة لهذا الوضع فمن الصعب أن نرى أي تغير يحقق أهداف الثورة، الثورة الأولى انتهت، على الشعب أن يتحرك ويستعد للثورة الثانية، والحقيقة إن إطلاق وصف الثورة على حركة 17 فبراير يحتاج إلى إعادة تقييم، فخلال القرون الثلاثة الماضية، ثلاث حركات سياسية في العالم فقط تستحق وصفها بالثورة. وهي الثورة الفرنسية التي ظلت مشتعلة 100 عام حتى تم القضاء فيها بالكامل على النظام الدكتاتوري الفاسد ممثلا في الملكية والإمبراطورية، إلي أن وصلت فرنسا إلي الجمهورية الخامسة، تليها الثورة الروسية التي تم القضاء فيها على الملايين من أنصار القيصرية، وأخيراً الثورة الإيرانية التي اجتثت نظام الشاه من جذوره.

وفي الثورات الثلاثة تم القضاء على كل أعداء الثورة، بل وحتى من يشتبه في مناهضته لها، وأحكمت الثورة قبضتها على الدولة ومؤسساتها خلال المرحلة الانتقالية. ثورتنا أو حركة 17 فبراير توقفت قبل المحطة الرئيسية وهي حكم البلاد وتطهيرها من الأزلام والطحالب وأنصار النظام السابق، ثم تركت الباب مفتوحا ليدخل من خلاله الطحالب والأزلام واللصوص والمفسدون، بعد أن غيروا من ألوان جلودهم وانقضوا على السلطة، يفسدون وينهبون ويلقون للمواطن بالفتات.

بعد 14 سنة من حركة 17 فبراير، مازالت المحاكم تحكم بقانون 104 وبقانون 116 والقوانين الظالمة الأخرى، التي تم استنباطها من هرطقات كتاب القذافي، مع منح الحكومة حق السطو على أراضي الناس بذرائع واهية، أما المواطن الليبي الذي سلبت أملاكه وعقاراته وشركاته بأفكار القذافي وهذيانه، لا يستطيع اليوم أن يستردّها، ولم تسع الثورة في إنصافهم بتعويضات عادلة، ولعل أسوأ من النتائج حتى الآن هو أن كل من ساهم في الثورة وجاهد وضعته حكومة حفتر وحكومة الدبيبة في خانة العدو.

إن حركة 17 فبراير لم تسلم من مصير كل الحركات السياسية العنيفة عبر التاريخ، تشتت ثوارها بين القبور والسجون والمنافي، كالقطة التي أكلت صغارها، بينما قفز عليها بعد سقوط النظام الانتهازيون، والثوار الزائفون، والمؤلفة قلوبهم من بقايا أيتام النظام السابق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى