رأي- الفرصة مازالت قائمة
* كتب/ بشير الفيتوري،
الوضع سيء جداً.. ولكن هل هو أسوأ ما هنالك؟ أم يمكن أن يكون أسوأ مما نحن عليه الآن؟ وهل هو أسوأ وضع مر علينا؟
الوضع سيئ من مئات السنين، وليس الآن فقط. بل ربما الوضع سيئ منذ الفتنة الكبرى. بالنسبة لي شخصياً، الانحراف بدأ من هناك. وإذا اقتربنا أكثر من الحاضر، فإن الوضع سيء منذ ما يقرب من 500 سنة تقريباً، في الوقت الذي بدأت تصعد فيه أوربا وننحدر فيه بشكل مستمر.
1492 م تاريخ سقوط غرناطة وفي نفس السنة اكتشف كولمبس أمريكا، في 1510 أي بعد هذا بعشرين سنة جاء الإسبان وسيطروا على طرابلس، وسلموها بعد مدة إلى فرسان القديس يوحنا.
1551 العثمانيون يحررون طرابلس من فرسان القديس يوحنا. ويتولون مقاليد الحكم فيها. بغض النظر عن الدور العثماني والدولة العثمانية، إلا أنها شهدت فترات قوة واضحة، حتى وصلت إلى أسوار فيينا. لكن وراء هذه القوة كان يختفي الضعف المتأصل في كل دول المنطقة، وكل هذه الإمارات والسلطنات والدول التي كان الإسلام هو الثقافة السائدة فيها، وهي مشكلة الصراع على الحكم، أو الضلال السياسي، كما سمعت أحدهم مرة يسميه. لنتذكر أن أقوى السلاطين العثمانيين قتل صهره وابنه في صراع على الحكم.
في الوقت التي كانت تصعد فيه أوربا وتبحث عن حلول لمشاكلها كنا نتدهور.
في نفس الفترة 1520 أو في هذه الحدود ظهرت البروتستانتية كنوع من محاولة الإصلاح في أوربا. وشهدت صراعات استمرت مائة سنة تقريباً
لعل أشهر هذه الحروب هي حرب الثلاثين سنة 1618 إلى 1648 وانتهت بمعاهدة وستفاليا، وهي مدينة في ألمانيا. ضحايا هذه الحرب يقدرون بين 3 إلى 11 مليون، وعمت كل أوربا. لكن معاهدة وستفاليا أنهت كل هذا ووضعت نظاماً جديداً.
المفاوضات في وستفاليا استمرت شهوراً، والوفود جاءت من كل أوربا للإقامة في هذه المدينة الصغيرة. في النهاية ظهرت نتيجتان من وستفاليا: كانت حرب الثلاثين سنة آخر الحروب على أسس دينية (داخل أوربا) لأن الحرب كانت بين البروتستانت والكاثوليك، وكان يستخدم فيها المرتزقة، وكان الانتماء للطائفة وليس للدولة، يعني واحد في ألمانيا يمكن يقاتل مع ملك السويد لأنه من نفس الطائفة. النتيجة الثانية المرتبطة بهذه النتيجة تم الاعتراف بسيادة الدولة وتصرفها في شؤونها الداخلية، وبناء عليه تم ترسيم الحدود بشكل أو بآخر (هذا في أوروبا.. نحن رسموا لنا الحدود بالمسطرة في معاهدة سايكس بيكو 1916).
النظام العالمي الحالي يعتبر نتيجة لمعاهدة وستفاليا في 1648، حتى يتم التعبير عنه في الأدبيات السياسية بالنظام الوستفالي.
بالطبع نحن نعيش مرحلة جديدة وربما تحدث تغييرات جذرية في النظام العالمي. وكذلك منذ معاهدة وستفاليا حتى الآن حدثت أحداث كبيرة.
لكن خلاصة القول أنه في نفس الفترة التي كانت تصعد فيها قوة الغرب الفكرية والعسكرية والمؤسساتية كنا نشاهد انحداراً وانحطاطاً مستمراً لكل الدول والمكونات التي في المنطقة.
أتيحت لنا عدة فرص لكن لم نستغلها وضاعت للأسف.
في 1911 جاء الطليان غازين إلى ليبيا، وكانت هناك تضحيات كبيرة، وأفكار سياسية كبيرة أيضاً بمقياس ذلك الوقت، ولكن لم ننجح في التوحد حول مشروع وطني. والنتيجة، أن الخلافات التي دبت بيننا هي من ساعدت الطليان في السيطرة على ليبيا. ربما كان هذا أمراً شبه محكوم بالتفوق العسكري للطليان، لكن في نفس الوقت لا نستطيع أن ننكر أنه كان هناك عمل سياسي ممتاز، ولكنه لم يكتمل ولم ينجح بسبب الخلافات الداخلية.
ثم بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت حركات الاستقلال في المنطقة كلها، وبدون الخوض في التفاصيل إلا أننا فقدنا فرصة تاريخية أخرى، والعالم بدأ يتغير بعد الحرب العالمية الثانية، والكثير من الدول استطاعت اللحاق بركب الاقتصاد المتقدم، ولكن نحن ظللنا نرزح تحت أنظمة مستبدة متخلفة، والنتيجة واضحة.
حتى مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وانفتاح العالم وثورة المعلومات، والتي يمكن القول أنها ظهرت بشكل واضح منذ الثمانينيات والتسعينيات، كانت هناك فرصة أخرى لمواكبة حركة التطور الاقتصادي والعلمي والفكري، وبناء نهضة ومشروع حضاري، ولكن للأسف الأنظمة وصلت إلى درجة من الترهل والتكلس خطيرة، وربما هذا أصاب حتى الشعوب والناس.
مع انفجار الانتفاضات الشعبية في 2011 في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، لاح أمل جديد، وفرصة تاريخية غير مسبوقة. نحن هنا في ليبيا ضحى الكثيرون ومنذ الأيام الأولى بالغالي والنفيس من أجل هذا التغيير. إن الذي وحد الثوار والمنتفضين ضد النظام السابق هو حلم بأن نستطيع أن نمتلك زمام أمرنا، ونقرر مصيرنا، وأن تكون لنا دولة مؤسسات، وأن نعيش بكرامة وحرية، وأن نبني اقتصاداً مزدهراً يرتكز على الابتكار والمنافسة. أنا متأكد أن الكثير من الثائرين كانت هذه الأحلام في مخيلاتهم حتى وإن لم يعبروا عنها بدقة.
ربما ليس من الواضح لدى الكثيرين ما الذي يريدونه، ولكن كان واضحاً ما الذي لا يريدونه. كان واضحاً أن هذا النظام الديكتاتوري المستبد قد انتهى، وأنه لا مكان له في قادم الأيام. حركة التاريخ، وسنن الخلق تقضي بذلك. وقد دفع الآلاف من المخلصين أنفسهم رخيصة زكية من أجل أن ينال الشعب قراره ويقرر مصيره. ولكن الأحلام الوردية والتضحية في ميدان القتال تختلف عن كواليس السياسة ودهاليز النفوذ. وكان ما كان وحصل ما حصل، وما أنتم عليه شاهدون طيلة هذه السنوات العشر، والتي تحتاج إلى مقالات أخرى لتفصيل أحداثها وتقييم نتائجها ودراسة اتجاهاتها وأسبابها.
ولكي لا أطيل فإن الخلاصة بسيطة وواضحة: وهي أن الوضع سيء ولكن الفرصة مازالت قائمة، وأن التغيير مسؤوليتنا، وأن الحسنة الرئيسية، ربما، لما نحن فيه الآن، هي أننا مفتوحون على كل الاحتمالات (سيئها وحسنها) وكل السيناريوهات (متشائمها ومتفائلها)، والأمر حسب السنن الكونية يعتمد على اجتهاداتنا وقدرتنا على أن نتدخل في مسار الأحداث ونؤثر في مشهد التطورات. وأن الميزة عندنا هي سقف من الحرية ولو بسيط، نستطيع في ظله أن نجتمع ونتحاور ونطلق المبادرات ونقوم بالمحاولات.
القانون الرئيسي في العالم اليوم، العالم الحديث: هو التغيير والمؤسسات. التغيير عملية مركبة وهناك تداخل بين الفكر والواقع، والمؤسسات هي من أقوى أدوات التنفيذ. من الصعب للفرد أن يكون مؤثراً، ولو كان مؤثراً سيكون هذا محدوداً في مجال معين. أما مصائر الدول ومصائر الشعوب في العصر الحديث فتحتاج إلى جهود منظمة ومنسقة، والأهم هو قدرتنا على بناء مؤسسات وكيانات سياسية قادرة، وليست مجرد أسماء وهياكل خواء لا روح فيها.
هناك العديد من المشاريع والأفكار، وعلينا الاستمرار، والتطور بشكل مستمر، وإدراك أن عامل الوقت حاسم، ولا توجد هناك فرصة للرفاهية والنقاشات البيزنطية، وأن علينا أن نعمل بجد، وأن المطلوب الآن هو عمل تنظيمي على أعلى مستوى وبأحسن المعايير، وبناء على ما وصلت إليه التجربة الإنسانية في بناء المؤسسات والتغيير، وإن اختراعنا وابتكارنا الأهم كمجتمع سيكون في العمل السياسي والتغيير الاجتماعي، والتي من شأنها أن تمهد الأرضية لكل العمل الآخر.