* كتب/ أنس أبوشعالة،
نلاحظ بجلاء انقلاب موازين ومعايير جميع الأشياء من خلال متابعة الاهتمامات العامة للناس، فترى الرياضة سبباً لموت شخص حكيم رصين بنوبة قلبية جراء تأثره بخسارة فريقه في اللحظة النهائية من المباراة الدولية.
و ترى جموعاً غفيرة من الشباب و الشيوخ يخرجون طواعية و تلقائياً و يغلقون الطرق و يعطلون العمل لاستقبالهم لذاك الفريق الذي انتصر و جلب الكأس العزيز الذي بُذل لأجله الغالي والنفيس .
فخر و فخار يشعر به ذلك الرجل البار حين بذله ملايين الدولارات لشراء لاعب موهوب يخطف الأبصار و يأسر القلوب بحركاته البهلوانية و الذي حين لمسة للكرة تصيح الجماهير حتى تبلغ القلوب الحناجر و ترى الأب يرفع ابنه على الأكتاف لتحية ذلك البطل الهُمام و يدعو ربه أن يصير ابنه مثل ذلك الأسد الحُسام .
إجراءات أمنية و بروتوكولات رسمية تُقام لاستقبال نجمة عربية ذائعة الصيت في اللاشيء، و تراها صادقة في اسمها و وصفتها “مؤثرة” فلا تملك في جعبتها إلا التأثير و ليس المقام ملائماً لبحث وجه التأثير و حجمه و أهميته فذاك أمر ليس لنا سبيل لإدراكه .
رأيت مقطعاً لفنان نال جائزة في مهرجان سينمائي و قد سئل من صحفي ماذا يعني لك هذا التكريم و قيمة العمل الفنية و تأثيره في السينما العربية فكان رد الفنان القدير صاحب الجائزة و التقدير (أنا باعتباري إنسان تافه لا أستطيع الرد على هذا السؤال العميق) الأعجب من هذا الرد التافه ردة فعل الحضور الأكثر تفاهة بعلو ضحكاتهم وإعجابهم الشديد بهذا الرد العجيب، وهذا دليل آخر على ما نعيشه من قهر قاهر .
حينما ترى تردياً كهذا لا يمكنك أن تتأمل الأمل في ولادة معجزة من رحم الفتن التي جعلت قيمةً لكل تفاهة وأعلت قدرها وجعلت لها وجاهةً ومكانةً وحصانة، وصارت الأخلاق مجرد كلام وأشعار، تُقال في خُطب الجمعة المكررة المُملة التي يصيح فيها الخطيب ولا سميع لصياحه إلا الحوائط، فالمصلين يفكرون فيما سيلتهمونه من كسكسي أو بازين وتراهم هائمين لا يتذكرون من صلاتهم إلا تسليم الإمام عند انتهاء الصلاة وإذ بهم فزعين نحو الأبواب مسرعين متدافعين وكأنهم فارين من عذاب عظيم.
ترى التهافت على أضحية العيد رغم أنها سنةً وليست فرضاً بيد أن شواء الخراف أقرب للتقوى، وترى التهافت على المأكولات في شهر رمضان يتفوق على قراءة بضع من القرآن فالأكل ألذ وأشهى، وترى التهافت على الحج والعمرة رغم أن الأولى مشروطة بالاستطاعة والثانية غير مفروضة ولها بدائل مستطاعة بيد أن لذة السفر وحلاوة السمر عند أطهر مستقر يثير الرغبات وتلبيس الملذات بظاهر العبادات.
قدر لي الله أن زرت بيت الله الحرام فرأيت من يتشبث بأحجار الكعبة وكأنه يمسك بذات الله عز وجل في علاه فأدركت أن الوثنية والمادية لازالت متأصلة في النفوس و رغم كل القرون التي مضت على انتشار الإسلام لازالت الأفهام قاصرة عن إدراك معنى الدين والإيمان ووجود الملك الرحمن في كل مكان وزمان لا تختزله كعبة مبنية من حجر، وأن التفاهات فعلت أفاعيلها حتى في مفهوم الإيمان والدين والعبادات .
التفاهة رأيتها عند حرص الطائفين على تصوير أنفسهم عند الكعبة وعند السعي وعند الصلاة وعند الإحرام وعند كل نسك من مناسك الشعيرة لنشرها في الفيس بوك لتداولها ربما لغرض المباهاة أو التأكيد على التقوى والصلاح وتراه منتظراً التعليقات التافهة وأشهرها في ذاك المقام لا تنسنا من الدعاء والتسليم على رسول الله عند زيارة قبره وكل ذلك يؤكد العمق الكبير للتفاهة فمن أراد من الله شيئاً فإن الله يسمع ويرى وليس محدودا بمكان محدد ومن أراد السلام على رسول الله يستطيع بكل بساطة وهو على فراشه أن يصلي ويسلم عليه وسلامه بالغ مقصده محقق لغرضه وأثره، وكم من تفاهات نراها في كل المقامات والمجالات والاتجاهات .
ألا ترى أن التهافت صار على كل ما هو تافه؟ وصارت التفاهة ذات قدر وقيمة، وأضحى الرشاد والفلاح والعقل هو الذي ليس له قيمة، اللغة تستعصي عن التعبير حين نضطر لوصف كل قيم بالتفاهة من حيث التغافل عنه، ووصف كل ما هو تافه بالعلو والسمو والتقدير من حيث التهافت إليه، نحن في غفلة وتغافل عن كل شيء نافع، و في سباق وتهافت على كل ما هو تافه، ومن الطبيعي جداً أن نكون نموذجا مثالياً للتفاهة ومنتجاً غنياً للتافهين.
ختاماً،، ورد في الأثر أن الإمام أبوحنيفة كان يلقي دروسه على تلاميذه وهو ماد لرجليه لآلام في ركبتيه، فدخل عليه رجل توحي هيئته بالعلم والوقار فاستحى ابو حنيفة فضم رجليه، عند انتهاء الدرس سأل هذا الرجل الوقور أبوحنيفة، يا إمام متى يفطر الصائم، فرد أبوحنيفة متردداً لعل في السؤال مكيدة، عند غروب الشمس، فرد السائل ماذا لو لم تغرب الشمس ذاك اليوم، فقال أبوحنيفة قولته الشهيرة، آن لأبوحنيفة أن يمد رجليه.
مدوا أرجلكم ولا تبالوا،، مدوا و تمددوا ولا تترددوا..