* كتب/ هشام الشلوي،
بعض المعارك تنشأ في عقول الفلاسفة والحكماء ومفسري حركات التاريخ، من مثل مصطلح الاستعمار الذي غشينا بعد أن رست سفينة مسيرة حضارتنا على مراسي الدعة وضحالة الأفكار والركون إلى الصراعات المحلية.
يبدو أنهم قلة.. أولئك الذين رفضوا ذلك المصطلح لتوصيف حالة الاحتلال الأجنبي، وظل نضالهم هامشيا إلى جانب هذا السيل العرم من الكتابات الغربية الاستشراقية وأخواتها العربية والإسلامية التي طفحت بمصطلح الاستعمار كحيلة دفاعية عن أبغض المراحل التي مرت بها هذه الأمة.
انتقلنا بعد هذا الاستسلام لمصطلح الاستعمار إلى مرحلة لا تقل خطورة عن صورة الاستعمار السابقة، انتقلنا إلى مصطلح آخر، ألا وهو التحرير، وذلك لوصف الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي نرزح تحت وطأتها حاليا.
لا يغيب عن المدقق الحصيف أنه لا يمكن بحال من الأحوال إطلاق مصطلح التحرير على هذا الوضع المأزوم الذي يحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم، فليس التحرير خروج محتل أجنبي، وإمساك وطني بزمام السلطة، أي أن هذه العملية ليست صك براءة للحاكم الوطني تعفيه من مسائلة التاريخ والضمائر.
من زاوية أخرى
اقتسمت بريطانيا وفرنسا حكم الشرق الأوسط بما في ذلك أغلب دولنا العربية والإسلامية لعقود طويلة، بعد أن وهنت الإمبراطورية العثمانية وسقطت كحتمية تاريخية، سرى قانونها على كل الإمبراطوريات السابقة عليها، سقط العثمانيون وخلفوا وراءهم دولا متخلفة ضعيفة المتحد السياسي، مهزومة في ثقافتها، واهنة في علومها، مقتاتة على موائد غيرها، متكئة على أوهامها، متبخترة بما مضى من تاريخها، غير عابئة بمستقبلها.
إلا أن أحكام التاريخ القاسية وسنن الله الماضية جرت أيضا على فرنسا وبريطانيا، اللتين وهنتا وضعفتا بعد الحرب الأوروبية الثانية، فخرجتا منها مهزوزتي الأركان، غير مهيبتين الجانب، وكان لا بد أن يمتد هذا الضعف إلى تلكم الدول المحتلة، فلا هما قادرتين على الاستمرار في استخراب هذه الدول، ولا هما راغبتين في الخروج منهما.
تزامن وهنهما مع صعود الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، اللتين سارعتا إلى ملء هذا الفراغ الاستراتيجي، لأن دولنا ومقدراتنا وصراعتنا الثقافية وأدواتنا الحضارية لا تؤهلنا بحال لحكم بلداننا، وسنن الله لا تحابي أحدا من خلقه، فإما اضطلاع بأسباب الفكر والقوة، وإما الركون في زوايا التاريخ نشاهد ونتأثر ويُفعل بنا ويُقرر مصيرنا بيد عمرو لا بأيدينا.
وإذا ما قارنا بين الشرين؛ أي الاحتلالين، وكُتب علينا أن نختار أقلهما مرارة، فسنرى أن الإنجليز كانوا أقل سوءا من الولايات المتحدة، لأنهم من قوم لهم تقاليد برلمانية ضاربة في القدم، فهم تركوا أو سمحوا وأنشأوا أنظمة ملكية وجمهورية أقل ضراوة من تلك العسكرية التي ابتلتنا بها الولايات المتحدة.
ولنا أن ننظر في حال مصر وليبيا والعراق والسودان وبقية الدول العربية والإسلامية أيام حكم الإنجليز وحالها بعد صعود الأنظمة العسكرية إما بتدبير أمريكي أو آخر سوفيتي، وكل ذلك تنبئنا به مظان التاريخ وقراطيسه ورواياته وما عرفناه من حال تلك البلدان بالرواية والدراية.
أتى ما لا مفر منه بالنسبة للإنجليز والفرنسيس، وخرجوا صاغرين لا بسبب من قوتنا واستعدادنا، بل مما أوقعته بهما الحرب الأوروبية من خسائر بشرية ومادية استحال معهما أن يبقيا مسيطرتين على هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة، وبها أمة لا تستطيع أن تحيك ثوب أفكارها ولا أن تجدده، بل تصر على اعتمار ما بلي وجمد وأنهكته صروف الزمان وعواديه.
تسابقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حينها على الدخول إلى سوقنا الراكد ماؤه، الضحلة أغواره، لكن هذه المرة بأسلوب جديد كل الجدة ومختلف كل الاختلاف، ظاهره التحرر من ربقة بريطانيا وفرنسا، وباطنه احتلال طغمة عسكرية باطشة متنفذة لا تقل ضراوة وسوءا، إن لم تكن أكثر قساوة وفظاعة في حق شعوبها ودولها ومقدرات تلك الدول.
صُنعت هذه الأنظمة على أعين القوى الدولية الجديدة ونالت رعايتها وحمايتها، حتى يأذن الله لها بالسقوط والتشرذم في حلقة من حلقات التاريخ المنصاعة لأمر الله من قبل ومن بعد.
إذن نحن لم نتحرر ولم نستقل، بل مازال الاستخراب حاكم بأركانه فينا، ولا يقل بقاء تلك النظم الحاكمة خطرا عن بقاء الاحتلال المباشر للأرض والمقدرات ورقاب العباد ومصيرهم، إي وحق ربي لا يقل.
فما استخربته بريطانيا وفرنسا تكمله أنظمتنا العربية والإسلامية، وإن كانت تلك الأنظمة تفوق الإنجليز والفرنسيس في طلب الخراب وجمع أسبابه وقصر الناس عليه، إما بقوة عسكرية أو إحياء موات الأفكار وإطلاقها في رؤوس أبناء الأمة يمسكون بها ويقاتلون في سبيلها.