رأي- البدو و الحضر.. وجهان لعملة واحــدة هي “المدنية”
* كتب/ د. محمد بالروين
البدو والبداوة
البدو هم أقوام ينتقلون من مكان إلى آخر بمجرد أن يتوقف المكان الذي تركوه عن تقديم حاجاتهم الضرورية، وخصوصا الماء والكلأ للبدو المقيمين في الصحراء.
وهم أصحاب الشعر، وفصاحة الكلام، والأمانة، والمروءة، والكرم، والشجاعة، والإيثار وغيرها من القيم والصفات الحميدة، وهم أقوام يعيشون على الفطرة التي خلق الله الانسان عليها، وعلى بساطة الحياة والاعتماد على الذات.
ويُفضل البدو السكن في الخيام لسهولة فكها وإعادة بنائها مرةً أخرى، كما هو الحال بالنسبة لحاجياتهم وأمتعتهم فهي ضرورية وقليلة حتى يسهل عليهم نقلها من مكانٍ إلى آخر. وعليه فثقافة البدو ترتكز، في الأساس، على مبادئ البساطة والترحال وعدم الاستقرار. وهنا لابد من الإشارة إلى أن البدو ليس هم مجرد سكان الصحراء، كما يعتقد البعض، وإنما هم كل من يحمل الثقافات التقليدية، والحقيقة أن هناك بعض الحضر الذين يسكنون في المدن، هم في الحقيقة بدو في عقليّتهم وسلوكهم وتصرفاتهم ومعاملتهم.
أما البداوة فهي أسلوب ومنهاج حياة، تقوم على علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية مميزة، وقائمة على قيم وأعراف وعادات وتقاليد شفوية متوارثة عبر التاريخ، وعلى نظرة فردية للعالم والحياة. ويتميز سكان البداوة ببساطة ومحدودية معرفتهم بالأمور والقضايا العامة، وبذلك تجدهم دائما يتمسكون بعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم.
ويمكن القول أن جُل سلوكيات وأفعال وممارسات البداوة هي قيم جيدة وحميدة، وأخلاقيات سامية، ومواقف مُشرفة. وهي من جهة أخرى، حياة تتميّز بصعوبة العيش، وقلة الزاد، وكثرة التنقل، والترحال، وعدم الاستقرار.
ومن المؤسف أن الكثيرين من العوام وبعضاً من نخب الحضر، هذه الأيام، يحاولون اختزال البداوة في القبلية وربطها بالعصبية المقيتة، واعتبارها مؤسسة تقليدية قديمة يجب التخلص منها من أجل الوصول للحضارة والتمدن! وهنا أجد نفسي متفقا مع ما يقوله الأستاذ جعفر حسن في هذا الشأن بأن “.. كثيرا ما يخلط الناس في كلامهم عن البداوة بينها وبين القبلية، والحقيقة أن القبلية نظام اجتماعي لتجمع البشر، والنظام القبلي لا يساوي البداوة مطلقا، فالقبلية ظاهرة اجتماعية شاملة للتكوين البشري قبل وأثناء الحضارة…” (جعفر حسين, 2007).
وعليه فالقبيلة هي مؤسسة اجتماعية، كغيرها من المؤسسات الاجتماعية الآخرى، يمكن توظيفها من الصالحين للقيام بالخير، أو استغلالها من الانتهازيين لتحقيق مآربهم الشخصية.
أهم الخصائص الإيجابية للبدو
وهنا لابد من الإشارة إلى أن للبدو والبداوة خصائص ومزايا إيجابية عديدة لعل من أهمها الآتي:
- البدو والبداوة أقرب للفطرة والبساطةمن الحضر والحضارة.
- الترابط الاجتماعيبين البدو والبداوة أقوي وأقرب منه بين الحضر وفي الحضارة.
- البدو أكثر استعدادالتحمل قساوة الحياة وحرارة وبرودة الصحراء من الحضر.
- بينما يعتمد البدو على ضروريات الحياة، يهتم الحضر في أحوالهم وعاداتهم على الكماليات والرفاهيات.
- 5.واجب الضيافةعند البدو أمر مهم وعظيم، وإكرام الضيف صفة ملازمة لأهل البداوة وركن أساسي في عاداتهم وتقاليدهم.
- يقول ابن خلدون بأن “أهل البدو أقرب للخيرمن أهل الحضر” وفي هذا الصدد يقول: خذوا الخلق الرفيع من البوادي ** فإن النفس يُفسدها الزحام
وكم فقدت حلالتها قصور** ولم تفقدُ مروءتها الخيام
- البداوة بالنسبة لابن خلدون هي العمود الفقري لبناء الدول، لأن البدو أشداء وسريعو الحركة والاستجابة والرد.
الحُضر والحضارة
وفقا لقاموس لسان العرب- البدو هم ضد الحُضر، والبادية خلاف الحاضرة سواءً من العرب أو سواهم (قاموس المعاني، 2014.( بمعني أن الوجه الآخر للبداوة هو العمران (كما يسميه ابن خلدون)، أي الحضارة القائمة على الاستقرار والثبات والوفرة، وعلي العلاقات القائمة على قواعد وقوانين في أطر الدولة الحديثة.
ويعتبر علماء الثقافة السياسية المعاصرين أن أساس الحضارة هو ما يُعرف بــ “الثقافة المدنية” التي تتميز بمعايير كثيرة لعل من أهمها “قبول المواطنين بسلطة الدولة”، “الإيمان بالمشاركة في الواجبات المدنية”، “التداول السلمي علي السلطة” و “حل النزاعات بالطرق السلمية” ولقد تم استخدام مصطلح “الثقافة المدنية” لأول مرة عام 1963، في كتاب قيبرل اللاموند وسيدني فيربا، والذي كان بعنوان: “الثقافة المدنية: السلوك السياسي والديمقراطية في خمس دول”.
ولعله من المناسب أن أشير هنا أيضا بانه قد يعتقد البعض أن الهوية البدوية تقتصر على البدو الرحل في الصحراء فقط، ولكن هذا قطعاً ظن خاطئ؛ لأن البداوة قبل أي شيء آخر هي “حالة عقلية” و “ظاهرة نفسية” ترتكز بالدرجة الأولى على الشعور الدائم لشخص ما بالغربة، وضعف الانتماء، وعدم الاستقرار، سواء إن كان هذا الشخص من البدو أو من الحضر. فمثلا في العصر الحديث، يمكن القول أن اللاجئ، والمهاجر، والمغترب، والمشرد، وكل من ليس له عمل مستقر في المدن، هم في الحقيقة يعيشون هذه الحالة العقلية والظاهرة النفسية. وعلى سبيل المثال أيضا، نجد اليوم أن الكثير من العمال وبعض الموظفين في المجتمعات الصناعية والتكنولوجية في الدول الغربية مُضطرين إلى التنقل وبسرعة من عمل إلى آخر، ومن وظيفة إلى أخرى، بحثا عن أعمال ووظائف جديدة تناسب إمكانياتهم وتخصصاتهم وتطلعاتهم. فقد أشارت الإحصائيات السكانية في الولايات المتحدة الأمريكية لعام 2010، أن الباحثين عن العمل والوظائف، وخصوصا في القطاع الخاص، يتنقلون في المتوسط من سبع (7) إلى عشر (10) وظائف في أماكن مختلفة خلال حياتهم الوظيفية. فهل يمكن أن نطلق على هذه الشريحة من العمال الحضر الذين يقيمون في المدن على أنهم بدو؟! وهل يمكن اعتبارهم في الحقيقة كالبدو الرُحل في الصحراء الذين يبحثون عن الماء والكلأ؟ ألا تنطبق عليهم ثقافة بدو الصحراء بركائزها الأساسية الثلاث -التنقل والترحال وعدم الاستقرار؟ في اعتقادي المتواضع، نعم إنهم “بدو”، ولكنهم يمثلون الوجه الآخر للبداوة – ألا وهو “البداوة المعاصرة“.
من كل ما تقدم يمكن أن نستخلص أن الشعور بالبداوة في هذا العصر الرقمي، قد أصبح ظاهرة اجتماعية لا يمكن إخفاؤها أو تجاهلها، وحالة عقلية خطيرة لم يهتم بها المسؤولون في هذه الدول بعد! وهذا الوضع سيقود حتما، في كثير من الدول الحديثة إلى ضعف الهوية الوطنية، وانعدام الانتماء عند الكثير من هؤلاء العاملين والمهنيين في داخل هذه الدول، وأصبح “البدوي المعاصر” ظاهرة تقود في كثير من الأحيان إلى المزيد من العزلة واللامبالاة وعدم الاستقرار. وعليه فعلى كل من يريد تأسيس دولة حديثة مدنية ديمقراطية وعادلة، أن يهتم بهذه الشريحة من الشعب، وأن يسعى للعدالة والمساواة بين كل المواطنين سواء كانوا في الصحارى أو في القرى أو في المدن.
الخاتمة
باختصار شديد، يمكن أن نستخلص مما تقدم الآتي:
- أن الحضر هم مجموعات من البدو الذين فضلوا الاستقرار والتطور، بينما اختار البدو الرحل التمسك بتقاليدهم وعاداتهم القديمة، واختاروا أن يعيش أغلبهم حياة متنقلة وغير مستقرة في مكان واحد بعينه.
- أن البدو في الصحارى، في الحقيقة، لا يعارضون الحضر (كما يعتقد البعض)، وإنما هم الجزء المُكمل لهم.
- الاعتراف بضرورة وجود البداوة لقيام وتأسيس الدول الحديثة. وفي هذا الصدد يقول ابن خلدون (1332 – 1406 م) في مقدمته بأن: “… البداوة والبدو لهم علاقة قوية في إنشاء الدول الجديدة، وفي إحياء الأمم والشعوب….” ويذهب ابن خلدون إلى أبعد من ذلك باعتقاده أن “البداوة هم أصل الحضارة” بمعني أن البداوة هم أصل الحضر – أي أن أجداد الحضر (أي سكان المدن) كانوا أيضا بدو في وقت سابق قبل أن ينتقلوا للمدن.
- الإيمان بأن البداوة ظاهرة اجتماعية مستمرة عبر تاريخ الدول ومراحل نموها وتطورها. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ جعفر حسن بأنه “… لم يتم إثبات وجود لحظة واحدة تاريخية كانت فيها القبائل العربية تعيش حالة البداوة بشكل مطلق، بل كانت البداوة دائما على أطراف المدنية (الحضارة)”(جعفر حسين, 2007).
- إن التمسك والمحافظة على الحياة البدوية في أوطاننا سيساعدنا على فهم تاريخنا وأصولنا، وأيضا فهم طبيعة حضارتنا وتنوعنا وما تمخض عنهما من ثقافات ولغات وتنوع بين القبائل والشعوب. إن الحياة البدوية هي جزء لا يتجزأ من أي حضارة ناجحة ومتطورة. وإن الحضارة والبداوة هما نمطان وسلوكان قد نجد كليهما معا في البداوة والحضارة. ويصف الدكتور يحيى جبر هذه الظاهرة كالآتي: “… الحضارة عطاء مادي، والبداوة عطاء أخلاقي، وهما متضادان من جانب، وطرفا ممتد من جانب آخر، يتداخلان ويتصلان، والخير في التوسط بينهما، والأخذ من كليهما باعتدال. وفي عدم تحقيق ذلك، يكمن مشكل العرب في العصر الحديث….” (يحيي جبر, 2009). وتأكيدا على تكامل البدو مع الحضر، يصف الأستاذ محمد الأمين الواقع الليبي كالآتي: “… أن التفاعل بين الساحل والصحراء قد كان نعمة على بلدنا ولم يشكل في يوم من الأيام عامل عرقلة أو تعطيل لأي عمل خيّر أو ظاهرة غير إيجابية في ليبيا” (الأمين , 2019).
وفي الختام وإيمانا بكل ما سبق ذكره، يمكن التذكير بالآتي:
- على الإنسان المتحضر وكل من يريد تأسيس دولة حديثة مدنية ومتقدمة أن يرفض نظريات الاستعلاء والازدراء للظاهرة البدوية، لأن ذلك يتناقض مع كل ما يسعي لتحقيقه. ولابد أن نعي بأنه ليس كل البدو أعراب ولا همج ولا جهلة ولا رُعاع كما يحاول بعض الحاقدين والجاحدين تصويرهم.
- علينا أن نعي بأن مهاجمة الظاهرة البدوية، خصوصا وإخواننا البدو الشرفاء، هي بدون شك مؤشر على “الإفلاس القيمي”، وأن البيئة التي نعيش فيها هي بيئة تعيش ما يمكن تسميته بــ “ظاهرة القابلية للفساد”، أي بيئة تفتقد لأقل معايير المناعة المطلوبة والكافية لمحاربة القيم الفاسدة والعادات الضارة لقيام الدولة والمحافظة على المجتمع. والمؤسف أنه في هذا النوع من الثقافات يسود القول المأثور “السيئة تعم والحسنة تخصب” وتصبح هذه المقولة هي القانون السائد بين الناس، وتغيب القوانين الحقيقية لبناء الدولة وتنهار معالمها. وعليه فالمطلوب ألا نتمسك ونفتخر بالقيم والعادات والتقاليد والأفعال السيئة سواء إن كانت من الحضر أو من البدو. ويجب ألا نرفض كل ما هو خير سواء إن كان من البدو أو من الحضر.
- علينا أن نعترف بأن عظمة الشعوب تكمن في اختلافها وتنوعها وخصوصا بين بدوها وحضرها، وشرقها وغربها، وجنوبها وشمالها. ويجب أن نؤمن بأن القيم البدوية الحقيقية ممزوجة في أعماق تجمعاتنا المدنية، وإنه لا يمكن، بأي حال من الأحوال، الاستغناء عنها. وأن نؤمن أيضا بأن البدو والبداوة لن تكون أدوات عرقلة للنمو والتقدم في المجتمعات الحديثة التي تريد أن تتمدن وتنمو وتزدهر.
- علينا أن ندرك بأن ازدراء البدو أو البداوة، أو التقليل من شأنهم، أو وصفهم بما ليس فيهم، هو قطعا دليل على الجهل بحقائق التاريخ، وعلامة من علامات الحقد على أهل البداوة الشرفاء والكرماء. فيكفي البدو شرفا أنهم أهل الفصاحة في الكلام، والشجاعة في الميدان، وغيرها من الصفات الحميدة والأخلاق النبيلة.
- علينا أن ندرك أيضا ونعترف بأن هناك العديد من النواقص والعيوب والصفات السيئة والذميمة في الثقافات البدوية، والمهم هنا ألا نُعمم هذه النواقص والعيوب على كل البدو والبداوة. فعلى سبيل المثال، يجب أن نعي بأن سيئات أعراب الجاهلية في تلك الفترة من التاريخ لا علاقة لها بالبداوة والبدو عموما، وإنما هي نتاج مرحلة جاهلية، كانت في القرى أبرز منها في البادية التي كانت تعيش في الصحراء في تلك الفترة.
- يجب الابتعاد عن استخدام أسلوب التفضيل في المقارنة بين الحضر والبدو. وأن نترك ذلك لكل مواطن في داخل الوطن بأن يختار نمط الحياة والعيش التي يرغب فيها. بمعني آخر يجب ألا يكون هناك تفضيل للحضر على البدو، ولا للبدو على الحضر، وذلك لأنهما – في اعتقادي المتواضع – هما الجناحان اللذان لا يمكن للدولة الحديثة (خصوصا فيما يُعرف بالوطن العربي) أن تطير بدونهما. وفي هذا الصدد يقول الدكتور يحيي جبر”… إذا كان الاستقرار والتطور والعمران مدخل البشرية إلى الحضارة المادية، فإن الترحال والتنقل والبداوة مدخلها إلى حضارة القيم والأخلاق والمثل،”(يحيي جبر, 2009). هذا يعني أنه كلما استطاع الإنسان الجمع بين المادة والقيم الحميدة، كلما تطور وتقدم وازدهر، والعكس صحيح، بمعني كلما أهمل الإنسان الجانب القيمي والأخلاقي سيقود ذلك حتما إلى التخلف والحضيض. وبالتالي فعلي الجميع أن يتذكروا بأننا لن نستطيع بناء الوطن الذي نحلم به جميعا، بدون البدو والحضر معاً، بمعني ضرورة لقاء وتزاوج التطور والعمران مع القيم والأخلاق لقيام الدول وتقدمها. وبالتالي يجب أن ننظر للبدو والحضر على أنهما وجهان لعملة واحــدة هي “المدنية“.