* كتب/ محمد سحيم،
ينادونه في الشارع منعم، دون إضافة أي سابقة أو لاحقة عبودية، لكنه على الورق وكما تفرض الحَربتان (اللغة والدين) يُكتب ويُنادى (عبد المنعم).
هل لك اسمان يا منعم؟ سأله (خالد خناين) عندما سمع المُعلمة وهي تناديه باسم (عبد المنعم)
لا، اسم واحد، أجاب منعم، لكنهم في المدرسة يقرؤون اسمي كما كتب في (كتيب العائلة) عبد المنعم، في الشارع الجميع ينادونني منعم، لكن في المدرسة، أوحين أذهب مع أمي إلى المستوصف، فلابد لمن يقرأ اسمي من ورقة أن يقول (عبد المنعم).
أجاب خالد:
غريب، هذا غريب.. أنا لا يكتبون اسمي (عبد خالد) أنا فقط خالد، ربما لأنني لست (عبد) مثلك يا منعم، أنت عبد مثل بضنجالة ولابد من أن يضيفوا إلى اسمك كلمة (عبد) لهذا السبب.
ضحك الجميع بمن فيهم منعم، ثم عاد الأخير ليعقب على كلام خالد، وقال:
لست بحاجة إلى أن تنادى (عبد خالد) حتى لو كنت أسمر الوجه، فقد أضفنا إلى اسمك صفة (خناين) وصرت (خالد خناين) أنا عبد المنعم وأنت (خالد خناين) وكلانا يحمل اسم للنفس ووصف للوجه مدموجين معاً.
ضحك الجميع بشدة، وارتمى سراج على ظهره من الضحك ورمى بالسندويتش خلف ظهره، وطارت منه قطعة (طعمية) لحق بها منعم ووضعها في فمه بسرعة ونهم، قبل أن يأتي الأستاذ (اطوير) حاملاً عصاه ويقوم بجلدنا لأننا كنا نفطر ونتسامر خلف المبنى وليس في الساحة كما يفرض رب المدرسة المدير.
منذ تلك الضحكة التي انتهت بالجلد، لم أرى منعم يبتسم في أي مناسبة، لا بل إنه راح يتدرج في الحالة من الصمت إلى الكآبة، خطوة خطوة.
ماذا جرى لك يا منعم، سألته بينما كان يقف أمام باب بيت أحد الجيران ينتظر أن تعود إحداهن بطلبٍ ما أرسلته أمه لإحضاره.
ما شَيْ… أجاب منعم وهز كتفيه ومد شفّته السفلى -أي لا شيء- ثم عاد يتكلم بسرعة، لكن بحزن، هل تعلم يا محمد، سأترك المدرسة، في أي وقت، ربما هذا الشهر، أو بعد عطلة منتصف العام على أقصى تقدير، أنت تعلم ماذا حصل، وفاة والدي، والوضع، وإخوتي وأمي والبيت، لقد طلب مني خالي ألا أذهب إلى المدرسة منذ الصيف الماضي، بعد وفاة أبي مباشرة، وصار في كل مرة يأتي إلى بيتنا، يعيد الكلام نفسه لكن بغضب يزداد في كل مرة عن المرة السابقة.
قلت: هذا محزن يا منعم، سراج أيضاً قال إنه سيترك المدرسة.
سراج غبي -أجاب منعم- ولو كنت مكان أمه لبعته في العيد القادم (حولي سطاح) إذ يصلح للشواية والقديد. قالها منعم ولم يضحك رغم أني انفجرت ضاحكاً من وصفه لسراج بالحولي السمين.
لاحقا، حين دخلت إلى المدرسة الثانوية، تقابلت مع منعم مرات قليلة، كان قد ترك الدراسة في التوقيت الذي حدثني عنه، وراحت أمواج الأعمال العارضة والوظائف المؤقتة، تضربه من جهة إلى أخرى، حتى رأيته في إحدى المرات وقد نام على ظهره في حديقة الجلاء، بعد أن ابتلع عدة أقراص مخدرة، كنت ماراً بالحديقة ورأيته ملقى على الجردينة، سلمت فلم يُجب، هززته بعنف ورحت أنادي عليه، فلم يتحرك، جاء رفيقه من بعيد وقال (العبد مسطول، متكيف، ضاربهن، خليه في حاله ما تطيرهنش)
تركته، ثم شاهدته يوم خرجت أمه إلى الشارع كي تنقذه من سوط خاله الذي راح يطرق جلده وسط دائرة من الأطفال والمارة.
كان عبد المنعم، مثل (كونتا كونتي) الذي كنا نشاهد رحلة عذابه واستعباده، نشاهدها كجرعة ترفيه ومشاهدة على قناة الأخ القائد، كان منعم يدور حول أمه وخاله، لكنه لم يكن يتفادى لسعات السوط، كان كونتا كونتي أو (توبي) شارعنا وعصرنا.
كان كل المحترمين يتجنبون سيئي الحظ من رفاق طفولتهم التي لم تكن بعيدة زمن مراهقتنا ذاك، كان خالد خناين وسراج ومنعم، من حثالة الحي، يتعاطون الحبوب وأي متاح من أدوات نسيان الماضي والمضارع، أنا لم أكن أتجنب أي أحد، من أي طبقة وتصنيف، كان الجميع يحافظون على مقاعدهم في قلبي، وحين أمر بأحدهم، لابد للتحية من أن تقال وللدردشة من أن تُسَال، حتى أن منعم في إحدى المرات قال:
كلما أظلمت الدنيا في وجهي وصارت مثل وجهي، وقفت أنت أمامي و(هدرزنا) حتى يعود المزاج ويعتدل من جديد، سأخبرك بشيء يا احميدا يا صديقي، يومها مررت بأقواس الدكاكين المقابلة، بعد الرئيسي، وجدت دكاناً غريباً، خياط يخيط الجلد، يصلح الأحذية ويعيد خياطتها، ويخيط ويصلح (جاكات) الجلد والحقائب وكل المصنوعات الجلدية، وقفت أمام زجاج ذلك الدكان، ورحت أراقب العامل المنكب على حذاء حُشر فوق مئزر بين ركبتيه، راقبته وهو يخيط الحذاء وكيف كان يعتني بإعمال المخرز والخيط في جانب الحذاء ويخرجهما من باطنه، ليعيد حشرهما من جديد وكيف كان يشد السلك مرة أخرى، واحدة تلو أخرى، كان كأنه يقوم بسحرٍ ما، وقفت أراقبه مشدوهاً حتى أكمل فردتي الحذاء.
ذهبت، ولم تفارق مخيلتي تلك الصورة، كانت كأنها موسيقى لكنها ترى ولا تسمع، مثل حبة (تريدون) ببلاش ولا يتبع تعاطيها أي صداع، رحت أتذكر نفذات الخيط والمخرز، واحدة تلو الأخرى، حتى أني عدت إلى البيت باكراً ودون أن أتناول أي قرص، استلقيت في المربوعة ورحت أسترجع صورة اهتمام ذاك العامل بذلك الحذاء، وأسأل نفسي ما السر في سحر ذلك المنظر؟ ربما هو العجب من الأقدار، إذ كيف يمكن لحذاء أن ينال اهتماماً وعناية لا يمكن لإنسان أن ينال مثلها، يدان خبيرتان وخيط ومخرز، لفة واحدة من حولك وتصير أقوى وضد التفسخ.
يضيف منعم، في اليوم التالي وجدت نفسي أحوم حول الدكان، وفور أن انتبهت إلى أن العامل استلم حذاءً آخر، اقتربت من الزجاج، ورحت أراقب الرجل وهو يخيط الحذاء، غبت في إغماءة مثل مجذوب في حضرة عيساوية، استمرت مراقبتي للخراز بضع أيام، خفت من أن ينتبه إلى وقوفي أمام دكانه، ويحاكم منظري وسحنتي، فغبت عنه لأيام، استغرقت خلالها في تعاطي الحبوب والعمل والمشاجرات، وذات مساء وقفت أمام الدكان، فانتبه الخراز إلى وقوفي، فأسرع ووضع ما كان في يده وجاء إلي وحياني، عرفت من تحيته أنه مغربي الجنسية، أدخلني إلى الدكان، وعرفني فوراً على جميع الأدوات وعلى آلتي الخياطة والمثاقب والشفرات والخيوط ومشفاة الخرازة وأمسك علبة (لصقة الكُولّا) وقال (أما هذه فبلاتي أنتي كي تعرفيها مزيان، لكن نحن نستخدموها للتلزيق موش للشم) .
في المرحلة الثانوية، كان التعسف الأمني والصدام مع الجهاديين على أشده، وكان طالب الثانوية خطراً محتملاً على أمن الجماهيرية وقائدها، خطر يقع في الترتيب الثالث بعد (الجهاديين، وأساتذة الجامعات وطلابها) فكانت مثابة وسط المدينة ولجانها الصُيَّع والجهلة يتبرزون على رؤوس طلاب مدرسة (شهداء يناير) وكان أن انتهى الأمر بي يومها إلى الخضوع لأول تحقيق بعد أن تلاسنت مع مدرس مادة (الوعي السياسي) كنت عائداً إلى البيت بعد المغرب، وأنا أحمل في سريرة نفسي تلك المغامرة، فتقابلت بالمصادفة مع منعم، ولم أنتبه له حتى حياني، رفعت رأسي ونظرت إليه، كان كأنه شخص جديد، إنسان آخر بُعث في جلد وجسد منعم، من هول الصدمة سألته (ما بك؟) أجاب وأسنانه البيضاء تلمع للمرة الأولى، بعد ابتسامته تلك في المدرسة، قال في جملة واحدة متصلة:
أنا بخير، أنا أعمل خراز وأحب هذا العمل وكل حياتي صارت أفضل.