*كتب/ عبدالله الكبير
هزيمة حفتر القاسية في غريان القاعدة الأساسية في حربه على العاصمة هي في الواقع هزيمة لحلفائه مصر والإمارات وفرنسا وروسيا، وقد وضعتهم تحت ضغط إضافي من الأوربيين في مسعى لوقف القتال والعودة للعملية السياسية، بينما يرغب الحلفاء في منح حفتر المزيد من الوقت ليقضي على خصومه ويُحكم قبضته على العاصمة ومن ثم كامل البلاد. مخطط احتواء تداعيات الهزيمة في معسكر حفتر كان يستهدف الرأي العام في مناطق نفوذه بشرق ليبيا بالدرجة الأولى، إذ كان متعذرا التعامل معها كخسارة عادية متوقعة في مسار الحرب، نظرًا إلى حجمها والعدد الكبير للقتلى فضلا عن تأثيرها في مسار الحرب.
الهدف الأول هو توجيه طاقة الغضب المتولدة لدى الناس نحو المزيد من التعبئة والتصعيد ضد الخصوم، لكي لا تتجه طاقة الغضب نحو حفتر وقادته لأنهم مسؤولون عن الهزيمة، فمن الطبيعي أن يكون الغضب عارمًا إزاء العدد الكبير من القتلى في معركة واحدة، والغضب طاقة هائلة تتأهب للانفجار لا يمكن دفعها وإنما يمكن السيطرة عليها وتوجيهها، والثاني تقديم أسباب مُقنعة لهزيمة نكراء أمام خصم يستخف حفتر به ويصفه بالمليشيات. واجه حفتر الهزيمة بحملة إعلامية تحرف النظر عنها نحو أخبار وتقارير إعلامية تفيد بقيام قوات حكومة الوفاق بتصفية الأسرى والجرحى من قوات حفتر فور السيطرة على المدينة وفرار قادة قواته على عجل منها، مخلفين وراءهم غرفة العمليات الرئيسية بكامل تجهيزاتها مع كميات ضخمة من الأسلحة والدخائر، ولم تتأكد صحة هذه التقارير من مصادر محايدة، ولم يظهر أي دليل ملموس يؤكدها، وقد نفى عميد بلدية غريان وجهات أخرى مسؤولة في حكومة الوفاق وفي مدينة غريان هذه المزاعم، مؤكدين على تسليم كافة الجرحى للهلال الأحمر، كما أعلن الناطق باسم عملية بركان الغضب استلام 150 أسيرا من قوات حفتر، ودفعا لأي شكوك حول قدرات حفتر العسكرية وضعف ضباطه في استراتيجيات الحروب أدان الناطق باسم حفتر التدخل التركي لمصلحة حكومة الوفاق، مرجعا أسباب الهزيمة إلى التدخل العسكري التركي المباشر في المعركة، وذكرت وسائل إعلام مؤيدة لقوات حفتر وجود آلاف الضباط الأتراك يديرون المعركة فضلا عن مشاركة عدد كبير من الطائرات المقاتلة التركية المتطورة، (فحفتر لم يخسر المعركة أمام “مليشيات” وإنما كان يواجه دولة كبرى متفوقة عسكريا وعضو في حلف الناتو، فالأمر طبيعي إذا وليس لضعف في قدرات حفتر العسكرية).
هذه هي الفكرة التي روجتها أدوات حفتر الإعلامية لتبرير الهزيمة، ومن المحتمل أنها تحمل في طياتها تلميحا لتدخل مصري إماراتي مضاد وأوسع لمصلحة حفتر لمنع سقوطه. يميل العوام عادة للخطابات المثيرة للمشاعر ويستسلمون لها وهو ما يؤدي إلى تعطل آليات التحليل العقلي المنطقي، لذلك تجد تبريرات منصات حفتر الإعلامية قبولا ملحوظا لدى الكثيرين في مناطق نفوذه، ومن ثم سترفع مؤقتا من أسهم حفتر المتهاوية في الشرق وتخفف من الفتور والرفض غير المعلن لحربه على طرابلس إلى حين تعرضه لهزيمة أخرى و عودة سيل الجنازات إلى الارتفاع.
القلق في معسكر حلفاء حفتر ليس بسبب خسارته لغريان فحسب وإنما لصعوبة نجدته عسكريا حتى يستعيدها ويعود له توازن في ميزان الحرب فقده لمصلحة قوات حكومة الوفاق، فصواريخ “جافلين” الأمريكية المضادة للدروع التي عثرت عليها قوات الوفاق في غريان سلمتها أمريكا للإمارات بموجب عقد يشترط عدم بيعها أو منحها أو إعادة تصديرها إلى طرف ثالث، وربما يؤدي التحقيق الأمريكي إلى إجراءات عقابية تضطر معها إلى وقف تزويد حفتر بأسلحة متطورة، قصف الطيران لموقع الصواريخ في معسكر الثامنة لم يتوقف أملاً في تدميرها قبل أن يتم تأمينها من مقاتلي حكومة الوفاق، ما يعكس القلق البالغ في معسكر حفتر من حجم الفضيحة التي ستطال حليفًا مهما خالف القوانين الأمريكية.
لن يتراجع حفتر عن خيار الحرب رغم خسارته لغريان، وفقده لعدد لا يستهان به من قواته وآلياته، وعجزه عن تحقيق أي تقدم في كل محاور القتال، فالتراجع بأي صورة هو بمثابة اعتراف بالهزيمة، والتعبئة في مناطق نفوذه ستمكنه من الاستمرار فيه بعض الوقت، ولكن من دون أي أمل في اقتحام طرابلس أو تحقيق فارق يؤهله لموقع متقدم في أي تسوية سياسية محتملة قد تفرض بتوافق دولي، فهزيمته في غريان أشعلت النيران في طموحه بالسيطرة الكاملة و فرض نفسه حاكما أوحدا، ومن دون مساندة خارجية واضحة من حلفائه لن يتمكن من تداركها و إطفائها، ومن ثم سوف يتصاعد لهيبها ويمتد حتى مناطق نفوذه في الشرق، وافتعاله لأزمة مع الحكومة التركية هو تمهيد لدفع الحلفاء إلى نجدته.
على جهة محاولات وقف القتال واستئناف التفاوض لن يكتب النجاح للمبعوث الأممي غسان سلامة في محاولته الأخيرة التي بدأها بمقابلة حفتر ليعرض عليه مخرجا مقبولا بصيغة دولية ملزمة لوقف الحرب ولقاء السراج مرة أخرى تمهيدا للعودة لتنفيذ تفاهمات أبوظبي عبر المؤتمر الجامع، ويبدو أن حفتر لم يتصلب في موقفه منتظرا رد السراج الذي رفض عرض سلامة مؤكدا أن المفاوضات المقبلة لن تكون مع حفتر، وهو ما دفع سلامة إلى توسيط إيطاليا بمقابلة وزير الخارجية ميلانيزي، للضغط على السراج حتى يقبل العرض، وقد كشف حديث سلامة في المؤتمر الصحفي بشكل غير مباشر بعض ملامح هذه المحاولة والعقبات التي تعترضها.
الخيوط الرئيسية في الأزمة الليبية دولية، ولا تلوح في الأفق أية بوادر لإجماع دولي على دعم أي مبادرة يقدمها سلامة، وعجز الأمم المتحدة بات واضحا ليس في الأزمة الليبية فحسب وإنما في كل الأزمات الدولية، لذلك سيبقى الموقف على الأرض هو العامل الحاسم وهو الذي سيوجه البوصلة السياسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** نشر المقال على موقع “عين ليبيا”- الاثنين (01 يوليو 2019م).