الاخيرةالرئيسية

رأي- الامبراطور الذي فضّل زراعة الكرنب!

عندما تصل إلى مرحلة ما من التأزم، حتى الذكاء لن يكون كافيا.. عليك دفع الثمن.. أو كان عليك أن لا تصل لهذه المرحلة

* كتب/ خليفة البشباش،

في منتصف القرن الثالث الميلادي انزلقت الإمبراطورية الرومانية إلى صراع مرير على العرش بين كبار القادة العسكريين، في الواقع، أطلق 26 قائدا على نفسه لقب “سيادة الإمبراطور” في وقت واحد، ما أدى -إلى جانب تراكمات وعوامل أخرى- إلى اندلاع سلسلة طويلة من الصراعات، وآلت الأمور إلى انقسام الإمبراطورية عمليا إلى ثلاث “إمبراطوريات موازية”، يحتفظ كل إمبراطور مزعوم بجزء من أراضي الإمبراطورية ومواردها، بالتعاون مع مجموعة متنافرة من الحلفاء المتنافسين.

وقد كان على كل قسم بطبيعة الحال خوض حروب لإضعاف خصومه وتوسيع سيطرته والاستعداد لأي هجوم من المنافسين، ناهيك عن هوس القادة الرومان أصلا بالمجد واكتساب الألقاب الانتصارية (Victory titles)، وللحفاظ على جيوش متطورة ومجهزة بمستوى الجيوش الرومانية آنذاك، يتطلب الأمر تمويلا هائلا، وزيادة في المصاريف كلما ازدادت الحاجة لخوض غزوة أو الاستعداد لأخرى مرتقبة، وقد رفع المتنافسون رواتب الفيالق والقادة والسياسيين والزعماء لاستمالتهم، واستنزف كل هذا التنافس والانقسام موارد واقتصاد الإمبراطورية بشكل حاد.

دون الدخول في تفاصيل المتصارعين وخريطة السيطرة، فقد انتهت هذه الحقبة مثل أي صراع مشابه، تقلّص عدد المتنافسين تدريجيا وأنهك الجميع تقريبا، وابتسمت اللعبة المميتة لشخص جمع بين شيء من “الفرتونة” وكثير من الذكاء، كان اسمه “دقليديانوس” الذي سيصبح إمبراطورا ثم يتخلى عن ذلك، وقد ابتكر نظام الحكم الرباعي، الذي أرضى به منافسيه مقابل الحفاظ على شيء من تماسك الامبراطورية.

لكن في تلك اللحظة، كانت مدن كبرى قد دمرت، وتقّطعت طرق التجارة، وتقلصت الموارد، والأهم، عانت العملة والاقتصاد الروماني من تضخم حاد، وقد استمر الحكّام في تخفيض نسبة “الفضة” من الديناروس، حتى أصبحت قطعة نحاسية عديمة القيمة مطلية بطبقة رقيقة من الفضة تختفي بمجرد فركها بيدك، وبينما كانت الفضة تمثل 95% من مادة الديناروس، فبحلول أزمة القرن الثالث هذه وصلت نسبة الفضة إلى أقل من 1%، لدرجة أن الحكومة نفسها باتت تفرض ضرائب عينية وخدمية بدلا من النقدية، ولك أن تتخيل كيف أن الأسعار “ولّعت!”

حاول دقليديانوس التخفيف من الأزمة فأصدر عملتين جديدتين ورفع وزن العملة ونسبة الفضة فيها، لكن أهم وأشهر إجراءاته كان “مرسوم الأسعار” الذي حاول من خلاله السيطرة على الارتفاع الجنوني لأسعار الحبوب والخضروات والنقل وغيرها، واضعا أقسى العقوبات التي تصل إلى الموت لكل من يخالف قائمة أسعار الإمبراطور.. وكان ينبغي لهذا الإجراء أن ينجح، أو هكذا اعتقد دقليديانوس.

لكن ذلك لم يحدث، وبدل أن تنخفض أسعار السلع، اختفت السلع نفسها (مفاجأة أليس كذلك؟) ولم يجد موظّفو الحكومة ما يسعّرونه، ونشأت أسواق سوداء لكل شيء، حبوب وخضار تباع خفية وبأسعار تفوق الأسعار التي كانت عليها قبل مرسوم الأسعار نفسه، ما فجر دوامة عنف أهلي في مجتمع بات جائعا، وقد انهارت التجارة بشكل كامل، حتى إن الناس في إمبراطورية روما العظيمة ذات الأنظمة المعقدة والأفكار الاقتصادية الثورية، عادت إلى المقايضة.

كان الدرس واضحا.. لا يمكنك أن ترتكب كل الموبقات الاقتصادية والمالية، وتصرف ببذخ دون مراعاة ولا معرفة بأبسط قواعد السوق، وحين تصل الأمور إلى حافة الانهيار.. تعتقد أنك ستحل الأزمة بإرسال مجموعة من العسس الجهلة إلى الأسواق ليضربوا الناس ويحددوا الأسعار بالمرتكة والأخمص، لا يمكن لأزمة تراكمت بفعل مجموعة من الإجراءات الغبية أن تحل بهذه الطريقة السحرية، عليك أولا أن توقف عوامل الانهيار وغباء السلطات وجشع الأقوياء.

أجرى دقليديانوس سلسلة من الإصلاحات الإدارية الحقيقية، وصلت لحدّ أنه تنازل عن الحكم طواعية، وحين دعاه شريكه ومنافسه السابق مكسيميان للعودة رفض وقال مقولة مشهورة: أفضل زراعة الكرنب!

ربما تحلى بالمسؤولية وقام بكثير من الإجراءات الذكية حين أصبح إمبراطورا، لكن عندما تصل إلى مرحلة ما من التأزم، حتى الذكاء والمسؤولية لن تكون كافية.. عليك دفع الثمن.. أو كان عليك أن لا تصل لهذه المرحلة.

هذه القصة حقيقية ومختصرة بشكل مخلّ، ويوجد في ليبيا نسخة من مرسوم دقليديانوس محفوظة في أحد المتاحف، وما قد تعتقده تشابها مع الواقع -باستثناء التنازل عن الحكم- هو نتيجة للغباء البشري الذي يحبّ تكرار نفسه.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى