
* كتب/ محمد اللديد،
من خطوطٍ بدائية نُقشت على جدران الكهوف قبل آلاف السنين لدى البابليين والفراعنة، إلى خوارزميات تتلاعب اليوم بمستقبل الاقتصاد وتوجّه سلوك الناخبين وتشخّص الأمراض قبل ظهورها، تبدو رحلة الأرقام أشبه بخيطٍ ممتدّ يربط الماضي بالحاضر، ويكشف كيف تحوّل الإنسان من مراقب للعالم إلى جزء من معادلة ضخمة تصنعها البيانات.
فعندما رسم الإنسان الأول خطوطاً متوازية على جدران الكهوف، لم يكن يرسم فناً، بل كان يبتكر طريقة لفهم العالم. تلك المجموعة من الخطوط كانت أول محاولة لـ تنظيم الفوضى كم حيواناً اصطاد؟ كم يوماً مضى؟ كم مرة عاد القمر إلى شكله الكامل؟ كانت تلك البداية العالم يمكن قياسه، وما يمكن قياسه يمكن فهمه، ومن هذا الوعي البسيط تشكلت أسس الحضارة.
ومع ظهور فيثاغورس لم يكن مجرد صاحب نظرية هندسية تُدرّس في المدارس. كان فيلسوفاً يرى أن الكون مبنيّ على الأعداد، وأن التناغم بين الأشياء يمكن التعبير عنه رياضياً، هذه الفكرة التي كانت تبدو ضرباً من الجنون آنذاك أصبحت حجر الأساس لكل علم لاحق
بل إن نيوتن نفسه، بعد آلاف السنين، لم يكتفِ بأن يرى التفاحة تسقط، بل سأل كم تسقط؟ وبأي سرعة؟ وما القوانين التي تحكم هذا السقوط؟ وهكذا من فيثاغورس إلى نيوتن كانت الأرقام تسير نحو هدف واحد تحويل العالم إلى معادلات.
في بغداد، وفي ذروة ازدهار بيت الحكمة، ظهر محمد بن موسى الخوارزمي ليمنح العالم يتجاوز الرياضيات التقليدي منهج التفكير بالأرقام، حيث قدم الخوارزمي للإنسان ما يمكن اعتباره أهم اختراع عقلي في التاريخ إنها الخوارزمية، الخوارزميات ليست أرقاماً فقط؛ إنها خطوات منطقية لصنع قرار:
هي طريقة للتفكير، وليست معادلات وحسب، يمكن القول دون مبالغة: فيثاغورس وضع نغمة الكون… والخوارزمي وضع لحن المستقبل
في القرن الحادي والعشرين، لم تعد الأرقام مجرد أدوات للبحث العلمي، بل أصبحت وقوداً لاقتصاد كامل، الشركات العملاقة: من جوجل إلى تسلا، لا تبيع أجهزة فحسب، بل تبيع تحليلات، بيانات، احتمالات، تنبؤات، لقد تحوّل الرقم إلى سلطة، تحول إلى مكافئ عصري للنفط، وتحوّل وادي السيليكون إلى ساحة فلسفة جديدة تقوم على مبدأ من يمتلك البيانات يمتلك الحقيقة.
لم يعد الإنسان هو من يتخذ قرارات البيع والشراء في البورصات، أكثر من 60% من التداولات اليوم تقوم بها خوارزميات عالية السرعة، هي لحظة يعيش فيها الاقتصاد وفق “نبض رقمي”، لا وفق انفعالات التجار كما كان يحدث في الأسواق القديمة، وهكذا، من عدّ الطرائد في الكهوف، إلى مراقبة حركة الأسهم على شاشات عملاقة، لا يزال السؤال ذاته هو المتحكم كم
فالخوارزميات اليوم قادرة على التنبؤ بسلوك الناخبين، وعلى تصميم رسائل مخصصة لكل فرد، إنه عصر تتحكم فيه الخوارزميات في القناعات، وتعيد تشكيل الوعي السياسي دون أن ينتبه أحد، كما أنّ الخوارزميات اليوم قادرة على تحليل أنفاسك، صوتك، نومك، تحركاتك، لتتنبأ بحالتك الصحية، لقد أصبحت الأرقام للمرة الأولى “طبيباً صامتاً” يراقب كل شيء..
هذا التطور الهائل يطرح سؤالاً: هل الأرقام مجرد أدوات لتسهيل حياتنا، أم أننا أصبحنا جزءاً من معادلة أكبر لا نعرف حدودها؟
إن ما بدأ بخدش حجري على جدار كهف قديم انتهى اليوم إلى أرقام رقمية تدير اقتصاد دول وتتحكم في سلوك البشر.
من فيثاغورس إلى الخوارزمي إلى وادي السيليكون، تتجلى حقيقة واحدة:
الأرقام ليست مجرد تاريخ… إنها مصير..



