
خبرهم جانا الساعة أحداش .. ماصدقناش.. بعد قالوا مات البحواس

احتار البال.. بعد قالوا أمعاه الغزال.. اللي وصفه أتجيبه محال.. طيابه وأخلاق مع الناس.. مكتوب كتب.. بعد قالوا أمعاه لشهب.. من الحادث نجاه الرب.. من دون أصحابه اللي عاش.. جابوا التابوت.. بكينا ياللي كنتوا خوت.. كل إنسان مصيره الموت.. وغير المولى مايبقاش.
بهذه الكلمات الحزينة رثى الشاعر (إبراهيم الحشاش) النجم (أحمد البحواس) الذي وافاه الأجل المحتوم إثر حادث سير أليم في شهر يناير 1980.. بكت مصراتة فقيدها وأصبحت تلك الأبيات بعد أن تحولت إلى أغنية يرددها الجميع رفيقة لأي حديث يدور حول البحواس، الذي رغم رحيله المبكر كان نجماً محبوبا فوق العادة واسألوا عن ذلك كل معاصريه من عشاق كرة القدم.
وكنت منذ زمن بعيد أريد أن أكتب أي شيء عن هذا اللاعب الفذ وذلك لعدة أسباب، من ضمنها أن كل نادٍ يمارس كرة القدم في العالم رسخ في أذهان مشجعيه وعند الغير أيضاً، اللاعب الذي يعتبره النادي أحد رموزه الكبار وللأسف لم نفعل ذلك في نادي السويحلي بتعمد أو سهو أو بعدم اهتمام.
والسبب الآخر الذي يتمثل في أن الإبداعات التي كان يقدمها البحواس في الملعب فاق بها أقرانه في ليبيا وفي هذا شهادات كثيرة من المدربين واللاعبين، وسبب أضيفه إلى ما ذكرت أنه لم يكن يحتاج إلى أي مدرب يوجهه ولم يهتم بالتدريب والغريب أن موهبته التي حباه الله بها تفوقت على البقية الذين أنهكوا أنفسهم في التدريب والتقيد بتعليمات المدربين وهذه ظاهرة لا توجد حتى الآن في الملاعب العالمية إلا ما ندر، وربما أقرب مثال لذلك اللاعب الرائع (روماريو) في عهده.. للأسباب سالفة الذكر وغيرها تحمست للأسباب سالفة الذكر وغيرها تحمست مرة أخرى للكتابة عن النجم (أحمد البحواس) الملقب بالشبير ، وكانت مراجعي بالخصوص الحوار الذي أجراه أستاذنا الفاضل (مصطفى السوسي) مع شقيق اللاعب (عبد الله البحواس) وكان عنوان الحوار (اللاعب الفنان / أحمد البحواس ” أشبير” مروض المستديرة الساحرة الذي فقدناه وهو في ذروة عطائه) ، ونشر في ملحق أسواق الرياضي الصادر عن صحيفة أسواق العدد (17) السنة الثانية شهر سبتمبر 2005، كما زودني مشكورا المؤرخ والإعلامي الرياضي الأستاذ (علي الزعلوك) ببطاقة تعريفية جامعة مانعة عن اللاعب، فلهما خالص الشكر والتقدير.

في عام 1955 أتى (أحمد مصطفى البحواس) إلى الدنيا وظهرت عليه علامات نبوغه في مداعبة الكرة مبكرا ، مارسها في الشوارع ومع أولاد الجيران على الأرض الترابية، وشاء الله أن تشاهده عيون الأستاذ (إبراهيم السباعي) أحد نجوم نادي الأهلي المصراتي (سابقا) السويحلي (حاليا) وقائد فريق كرة القدم لسنوات، وبخبرته الكروية رأى أن أحمد الذي كان يلعب في فريق مدرسة مصراتة المركزية فيه المواصفات المثالية التي ستمكنّه من أن يكون نجما له شأن كبير في المستقبل القريب ، أخذ أستاذه إبراهيم بيده وسجل اسمه في كشوفات أشبال نادي الأهلي المصراتي (السويحلي) ، ولكن موهبته اللافتة سريعاً ما جعلت منه أحد اللاعبين في صفوف كبار النادي وكانت بداية سبعينيات القرن الماضي أول فرصة للولادة الرسمية لأحمد في ملاعب الكرة ، وإن كان التألق الحقيقي له والتفاف المعجبين حوله وترديد اسمه كان في موسم1974- 1975 ، وقد تميز صاحبنا بفنياته العالية في مداعبة الكرة وقدرته على توصيلها بأقل مجهود وبسلاسة دون تعقيد وعرف عنه تمركزه السليم داخل الملعب ونظرته الثاقبة وكيف يجعل المهاجم وجهًا لوجه مع المرمى، تاركه لمصيره، إما أن يهز الشباك أو يشنف أذنيه بكلمات يطلقها الجمهور الغاضب تجعله يتوارى خجلا.
عشقه للكرة كان كبيرًا جدًا حتى أنه لم يرتبط بأي عمل آخر يشغله عنها، أي مارسها باحتراف وأعطاها فنه وإبداعه ومنحته محبة الناس إلى الآن، وإذا تحدثنا عن المدربين الذين أشرفوا عليه فهم: المصري (أحمد فرج) واليوغسلافي (بيتر) و(إبراهيم السباعي والمصري(كمال الشيوي) والكوري (كيم) والتونسي (النوايلي) وقد اتفقوا جميعهم على إمكانيات البحواس المذهلة وحاولوا أن يمنحوه المكان المناسب في الملعب والجو الملائم لكي يستمتع ويمتع المتفرجين وهذا ما حدث، وتعدت شهرته مدينته مصراتة لتصل إلى طرابلس وبنغازي، وقد حاول نادي الأهلي ببنغازي ضم اللاعب إلى بقية نجوم الفريق ولكن باءت محاولتهم بالفشل، وذكر لي صديقه ورفيق رحلته الأخيرة في الدنيا الأستاذ (جمال الأشهب) قصة ذلك العرض وكيف منع من أصدقائه من قبول الخمسمائة دينار التي قدمت له كعرض للاحتراف، وأقنعوه بأنه ليس ملك نفسه بل ملك جمهور النادي، وقد تأثر وعاتب نفسه في مجرد التفكير بترك محبيه، ولم يفوت نادي الأهلي بطرابلس الفرصة وقدم عرضا عن طريق النجم الكبير (الهاشمي
البهلول) الذي قال: نريد أشبير في فريقنا بأي ثمن وعلى استعداد لتقديم كافة التسهيلات التي تمكنه من اللعب بكل راحة وانسجام، ولكن اصطدم بعشق اللاعب لناديه وجمهوره العريض، وربما ليحرق قلوب جمهور الأهلي بطرابلس قدم أشبير بالملعب البلدي بطرابلس مالم يقدمه في السنوات الماضية لمداعبته الكرة حيث قدم فاصلا من أرقى فنون الكرة وعلومها وجمالياتها عند مواجهته لفريق الأهلي بطرابلس أخرجت الآهات والزفرات والحسرات من قلوب الأهلاوية، زاد توهجا وتألقاً ولمعانا فسال لعاب إدارات أندية أخرى لعلها تستطيع اصطياد العصفور النادر وحبسه في القفص، ولكن الأمل خاب واستمر مع ناديه المفضل حتى رحيله.
بعد الجمهور وإدارات الأندية وعيون المدربين وأقلام الصحفيين وعدسات المصورين أتى الدور على مشرفي المنتخبات الوطنية بدءًا بالمنتخب المدرسي وانتهاءً بالمنتخب الأول، ولم يلتزم لاعبنا بالالتحاق لأسباب نجهلها حتى الآن، ربما وأقول ربما عدم منحه قدره واحترام إمكانياته ونجوميته مقارنة مع لاعبين آخرين أقل في المستوى وهذا يحدث دائمًا في كل زمان ومكان، وكم لعبت المجاملة من دور في طرد نجوم وإتاحة المجال للاعبين عاديين.
أما إنجازات (أحمد البحواس) مع السويحلي فكانت مساهمته في عودته لدوري الدرجة الأولى موسم 1974-1975 رفقة زملائه (إبراهيم دغدنة) الذي شكل معه ثنائيا بارزا في الملعب و(عبدالله ابوشحمة وإبراهيم السباعي وميلاد التريكي وجمال الناقوزي ونوري الحسان ومحمد عبدالله والمبروك المصراتي وعبد الله محجوب والصديق الغلاش ومحمد الغزيل والطاهر الهيشي ويوسف الضلعة) وغيرهم.. وساعد الفريق في الحصول على كأس الدرجة الثانية في آخر موسم له قبل وفاته.
وكل من عاصره أو رافقه في الملعب أو دربّه يؤكد أنه لم يكن ملتزماً بالتدريبات وكسول في هذا الجانب كما ذكرنا في أول المقال، مما سبب له بعض المشاكل والمتاعب مع مدربيه أو الإدارات المتعاقبة على النادي، وفي هذا المقام حدث موقف مؤثر للاعب ذرف فيه الدموع مدرارا وترك حسرة في قلبه وآهات كتمها ثم لم يلبث إلا أن أخرجها ممزوجة بتنهيدة وأعني عندما منعه المدرب المصري الشهير (كمال الشيوي) من خوض إحدى المباريات عقابًا له عن عدم حضوره للتدريبات، وفي رواية اخرى انه منع من صعود حافلة النادي المتجهة صوب ملعب المباراة فشاهدها من المدرجات متألما متحسراً باكيًا لأنه لم يتخيل فراقه لمعشوقته.
والمعروف عن (أحمد البحواس) أنه قليل الأهداف بحكم مركزه في صناعة اللعب التي أبدع فيها وأي أحد شاهد ذاك النجم المرتدي للغلالة رقم 13 وهو يداعب الكرة فمن البديهي أن ينبهر بكرة تنطلق منه نحو أحدهم وهو في حالة انفراد بالمرمى أو يمتع ناظريه بمراوغة بارعة تطيح بالخصم أرضاً، والرحلة في الملاعب كانت قصيرة زمنيًا ولكن سيرته كلاعب لازالت تروى في المقاهي وفي كل جلسات عشاق كرة القدم بالحب والحزن واتفاقهم جميعاً على نجوميته وليس أدل من ذلك أن الأغنية التي وثقت لرحيل البحواس كتبها وغناها لاعب الاتحاد المصراتي السابق (إبراهيم الحشاش) فالجميع يحبه ويترحم عليه وهذه من شيم الكرام والأوفياء.
نهاية أحمد البحواس (اشبير) كانت دراماتيكية عندما طلب المرحوم (عمر الغزال) من أحمد مرافقته إلى طرابلس لإحضار بعض المستندات العسكرية الخاصة بالخدمة الإلزامية، وكان الأستاذ (جمال الأشهب) هو من قاد السيارة وقد اعتذر صديقهم الأستاذ فيصل معيتيق عن مرافقتهم لظروف خاصة بعد أن كان مقرراً ذهابه معهم، وفي منطقة القربوللي وقع الحادث الأليم الذي نتج عنه وفاة لاعبنا الغالي وصديقه (عمر الغزال) ونجاة (جمال الأشهب) بأعجوبة، تغمد الله الفقيد بواسع رحمته.

وهكذا انتهت رحلة اشبير (أحمد البحواس) بمحطاتها القليلة، ولكن تركت لنا مساحات من الحب والتقدير والعرفان ومتعة الكلام عن نجم كان محور أحاديث معاصريه في السنوات الماضية، وستظل كلما ذكر أحدهم حتى عرضاً اسمه أو عن تاريخ وإنجازات ونجوم نادي السويحلي العريق.. وأختم سطوري ببقية الأبيات من الأغنية الشهيرة التي جسدت مكانة نجمنا في قلوبنا:
من يوم ما رحلتوا دمعتي سكابه.. طال السهر والقلب زاد عذابه.. الصبر ما ينسيني.. ولا الدمع يأبى ف يوم يترك عيني.. فقدت الغوالي والزها جافيني..
وغير كيف يزهى من فقد أصحابه. فارقتنا يا غزال. معاك الشبير والدمع مني سال. احتارن افكاري وانشغل البال.. الدنيا فانية أنا لقيتها وكذابة. ربي حكم في أوقاته. واللي انكتب لازم إيجي ف ساعاته يوم ما رحلتوا ظلمت مصراتة..
ياللي كنتوا لفرح قلبي أسبابه. خبرهم جانا الساعة أحداش.. ماصدقناش..
بعد قالوا مات البحواس.. احتار البال. بعد قالوا أمعاه الغزال. اللي وصفه أتجيبه محال. طيابه وأخلاق مع الناس. مكتوب كتب. بعد قالوا أمعاه لشهب. من الحادث نجاه الرب. من دون أصحابه اللي عاش. جابوا التابوت. بكينا ياللي كنتوا خوت..
كل إنسان مصيره الموت. وغير المولى مايبقاش. خبرهم جانا الساعة أحداش ……….



