
* كتب/ محمد جمعة البلعزي،
رغم انشغال مسؤولينا في قضايانا الداخلية.. أو نقص معرفتهم بالقضايا الخارجية.. إلا أن عجلة العالم لا زالت تدور حولنا ولا يمكن التغاضي عما يحدث في هذا العالم.. وليس بالضرورة ما يجري فقط فوق أرضنا العربية.. لأن الاعتقاد بأن الأحداث الساخنة الأخرى بعيدة عنا.. لكنّ الحقيقة تؤكد أن شظاياها حتماً ستحرقنا يوماً.. فعندما يدور النقاش حالياً حول استسلام أوكرانيا.. أرى من المفيد لمسؤولينا وخبرائنا في مجالي السياسة والدبلوماسية.. قراءة السيرة الذاتية للمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل.. لفهم ما تنبأت به أكثر من أي شخص آخر. لم أقترب شخصياً من المستشارة الألمانية السابقة إلا مرة واحدة.. عقب إلقاءها محاضرة حول الوضع الاقتصادي لأوروبا. لا أستطيع تحديد العام..
أعتقد أنه كان في منتصف ولايتها الثانية.. وما أتذكره أنه كان في الثامن من مارس.. بمناسبة يوم المرأة العالمي. لا أدري كيف وجدت نفسي في لحظة ما ذلك اليوم قرب ميركل.. أتذكر فقط أنني حضرت ضمن مجموعة كتاب ومفكرين دعاهم معهد “جوته” لحضور نقاش حول قدرة المرأة على الريادة التحررية. كانت ميركل محاطة بمجموعة من الرجال الأقوياء.. الذين شكلوا نصف دائرة خلفها.. موجموعة كاميرات قبالتها تتراجع نحو الخلف. مع ذلك.. لاحظتُ من موقعي أن خيط فردة حذائها اليمنى كان مرتخياً.. يبدو أن الحذاء كان ضيقاً.. ظهرت أنجيلا كتمثال.. نادراً ما تضحك.. تُجيب على سؤال كل شخص ببطءٍ وتأنٍّ.. منتصبةً مهيبةً دون افتعال.. مثاليةً في قوتها. فوق أرضية المكان كانت تسير بتأنٍ.. أجبرها حذاؤها الأسود على التباطؤ. كانت هي نفسها.. غارقةٌ في دورها.. لا تشعر بالانزعاج.. لم أستطع التوقف عن تتبع خطواتها.. غير قادرٍ على إبعاد نظري عنها. اهتمامٌ أحمقٌ بتفصيلٍ قرّبني فجأةً من شخصٍ لم أتبادل معه كلمةً أبداً. كنت متوتراً دون معنى تجاه تلك المرأة.. التي ربما لم تستحق ذلك التوتر.. وحتى لو احتاجته.. لن تلتفت نحوي.. فأنا أبعدُ عنها من نجمٍ في أقصى مجرة.

يجب أن أوضح أنه في ذلك الوقت.. لم تكن ميركل تحظى بشعبيةٍ كبيرة في البلد الذي أقيم به. كان السبب الاشتباه بأن بنية اليورو صُممت لمصلحة ألمانيا على حساب الدول الأضعف اقتصادياً.. وأن حكومة المستشارة كانت تُدرك تماماً كيفية استغلال هذا التفاوت. ما كان يحدث على مستوى الاقتصاد الكلي كان محسوساً في جيوب عامة الناس. أتذكر ارتباك الحسابات العامة والخاصة. فجأة.. أي شخص كان يعطي إكرامية لسائق التاكسي.. أصبح يدرك أن الاكرامية تُعادل ما كان يكفي سابقاً لشراء سترة. قال كثيرون إن الاتحاد الاوروبي يُخفي تنوعاً ثقافياً لا يُمكن السيطرة عليه.. وإن هذا الإرث سيكون من الصعب التغلب عليه. كانت تتكاثف فكرة أن أوروبا لا وجود لها.. أو أنها ليست سوى خليط من الدول توحّدها عملة ويقسّمها كل شيء.. شائعة أبقت حيّة على فكرة أوروبا كواقع لا تعريف له. في ذلك الوقت.. نُشر في فرنسا مقتطف من كتاب للفرنسي “إدواردو لورينسو”.. بعنوان “أوروبا التي لا تُقهر” (L’Europe introuvable).. لاقى صدىً استثنائياً بين الأوروبيين المُشككين في الاتحاد. حينها كان غير مفهوم أن الجهد الحقيقي والملموس.. الذي كانت تبذله ألمانيا لتكون القوة الدافعة وراء أوروبا.. من شأنه أن يُقرّب بين الثقافات ويُوحّدها في تنوعها.. فقد سال كثير من الحبر في مقالات مضادة لميركل.. مُعتبرةً إياها مصدراً للخلاف. لا أعلم إن كان قد جرى حصر الأعمال الروائية التي عكست ذاك الشعور.. لكن من الغريب أن يكون كتاب “هيرشت 07769”.. للكاتب لازلو كراسناهوركاي.. رسالةً طويلةً موجهةً من بطل الرواية إلى المستشارة الألمانية.. وكأنها تُمثّل القوة الرمزية القادرة على كبح جماح شرور العالم.
بطريقةٍ ما.. شاركتُ تلك النظرة الجانبية إلى أنغيلا ميركل عندما سرتُ خلفها بضعة أمتار.. لاحظتُ أنها تجرّ قدماً واحدة.. بالكاد تُمسك بحذائها. غمرتني شكوك وقتها أننا من الهشّاشة نعود في بعض الأحيان من فصيلة اللاعقلانيين. كنتُ أعلم ذلك.. لكن تعاطفاً لا يُفسّر.. مع فصيلة الإنسانية المُفرطة.. دفعني إلى تخفيف شكوكي تلك. في غضون ذلك.. مرّت السنوات ولم تعد السيدة ميركل مستشارة.. بل اكتسبت حياتها بُعداً شبه شعبي. ونظراً لسرعة تطوّر الحياة.. فقد حان الوقت لنحت صورتها من البرونز أو الرخام.. ليرفع الناس قبعاتهم أمامها.. أو يكتبوا عليها شعارات احتجاج.. لكن الواقع المؤلم الذي تواجهه أوروبا حالياً.. لا يسمح لها.. بحصر صورتها في زاوية خفية. ففي خضمّ الجدل الدائر حول الحرب في أوكرانيا.. تبرز شخصيتها يوماً بعد يوم كشخصية لا غنى عنها لفهم المأساة التي اندلعت في شرق أوروبا.. وامتداداً لذلك تؤثر على جميع الأوروبيين. تُتهم بأنها زعيمةٌ جرّت دول الاتحاد إلى سياسة التبعية الثلاثية: إلى الولايات المتحدة من أجل أمنها.. وإلى الصين من أجل التجارة.. وإلى روسيا من أجل الحصول على الوقود. بهذه الطريقة.. استطاع قادة تلك الدول العظمى إذلال وتجاهل وإهانة أهل أوروبا دون عقاب.. لأن هذا التبعية الثلاثية تُشلّ حركة دول أوروبا. ففي هذه المرحلة.. بات واضحاً أنهم يواجهون حبلاً ثلاثي الأطراف.. حيث يُلقي الأباطرة الثلاثة المستبدون.. كلٌّ بطريقته.. بحبال حول رقاب الأوروبيين لشنقهم. منذ 24 فبراير 2022.. غرق الأوروبيون شيئاً فشيئاً في مستنقع هذا الواقع المؤلم. لكن إلى أي مدى كانت ميركل.. مُمثلة محرك الاتحاد الأوروبي.. مسؤولةً عن إغفال ما يتهمها به الآن المحللون؟ يوماً بعد يوم.. تُعرض صورٌ تُجسّد تهاون ميركل مع بوتين في السنوات التي أعقبت ضم شبه جزيرة القرم عام 2014. وعندما تُعرض صور مأساوية لمدينة “بوتشا” الأوكرانية.. كرمزٍ للوحشية اللامحدودة.. إلى جانب لقطاتٍ مُتابعة لمدنٍ أوكرانيةٍ أخرى مُدمرةٍ كقطاع غزة.. ليس من الغريب أن نتذكر قمة بوخارست عام 2008..
عندما ناورت المستشارة الألمانية كي يتم تأجيل انضمام أوكرانيا إلى عضوية حلف الناتو. كان القصد الإيحاء بأن المستشارة الألمانية وساركوزي.. في تلك الأيام.. خفّفا من قبضة بوتين بدافع التعاطف المحض معه وامتنانهما له مقابل الغاز المُستخدم للطهي في المنازل الأوروبية. لكن الواقع يبدو مختلفاً تماماً.. ميركل التي كان لديها حسٌّ حادٌّ بالخطر.. بل كانت تشمّه من بعيد.. مع أنها كانت تُفضّل دائماً التصرّف على المدى القصير.. أدركت احتمالية العنف ومحاولة الهيمنة الكامنة بذهن الجاسوس الروسي السابق (بوتين).. وبتوجّسها ذاك.. بدى أنها لم ترغب فقط في تجنب صراعٍ مأساوي إلى جانب أوكرانيا.. بل وقبل كل شيء.. استبعاد إمكانية مواجهةٍ وحشيةٍ بين روسيا وحلف الناتو. علاوة على ذلك..
كانت ميركل تعلم جيداً أن الأمريكيين يتقدمون عبر بلدان أوروبا الشرقية.. مانحين الأولوية لما يسمى بالديمقراطية والحرية.. لكن الركيزة الثالثة للثلاثية التي ذكرناها.. كانت الأرباح. لذا.. في هذه الأوقات العصيبة.. حيث تجري مُناقشة استسلام أوكرانيا.. أنصح بقراءة كتاب “الحرية”.. السيرة الذاتية لأنغيلا ميركل.. لفهم ما هو على المحك الآن وما توقعته هي بجرأة. الكتاب بالتأكيد ليس نموذجاً للكتابة الإبداعية.. لكنه جدير بالقراءة للشباب.. سياسيين أو دبلوماسيين.. وخاصةً أولئك الذين لم يكونو.. حتى وقت قريب.. على دراية بمفهوم التكوين الأوروبي.
لكن ميركل أدركت هذا مبكراً.. وتركت وصيتها الوجودية إرثاً قيّماً. أنصح بالبدء بفصل “عالم مترابط: العُقد التي تجمعنا”.. وتحديداً المقطع الذي تُحلل فيه الفرق بين الكرة الأرضية وخريطة العالم.. لفهم جغرافية الشعوب. ثم.. إن سمح الوقت.. يُمكن العودة إلى البداية لفهم سبب استناد كتاب عن حياة امرأة أوروبية إلى مفهوم الحرية الذي لا يُمكن التلاعب به.
المرأة في غير عالم.. إنسان يحيا.. فكر يبدع.. مهارات تكتسب.. وتجارب تقتدى!
في عالمنا القاصر.. عقل ناقص.. سلعة تباع.. جارية تهدى.. وما ملك اليمين!



