الاخيرةالرئيسيةالراي

العودة إلى الساحل…!

 

في ستينات القرن الماضي.. كنا نسكن خارج منطقتنا الريفية.. أو ما كنا نسمّيه بالساحل والملاحة.. نعيش بين ذوق وفظاظة سكان المدينة وطيبة وتخلّف أهل الريف..

* كتب/ محمد جمعة البلعزي،

الارتباط بالساحل عزّز قوتنا كأشخاص قادرين على حمل عالمين في قلوبنا -الريف والمدينة-.. للعيش على أطرافه بمدينة كبيرة.. باعتبار الساحل قرية كان الوالدان يرسلاننا إليها في مواسم الصيف.. في محاولة لتفادي قطع الأغصان من الجدع.. والحنين الذي يشدهما دائماً إلى الماضي.. نجدنا في حافلة البولمان الزرقاء.. تتهادى في طريق معبّد.. إلى أن تقف قبالة طريق ترابية محاطة بالتين الشوكي.. يطلق عليها “الطريق الميتة” لقلة المارّة.. فنهبط من الحافلة لنسلك الطريق المؤدية إلى منزل الجدة.. تصل إلى مسامعنا صيحات النسوة المتحمسات.. اللاتي وصلهنّ خبر قدومنا قبل أن نصل نحن.. فنشرع في احتضان الخالات والعمات.. جارات قريبات وأخريات بعيدات.. لجنة استقبال عفوية تُبشّر بحلول الصيف وقدومنا.. وتعبّر عن فرح يصدر.. ربما طبيعياً أو مفتعلاً.. في ذلك الوقت.. كان لا بد من تقبيل ظهور أيادي وجبهات الرجال.. وتبادل الأحضان مع النساء.. لم نكن نُسأل نحن الأطفال إن كنا نريد ان يحتضِنّنا أو نحتضِنهنّ.. لكنها كانت شعيرة إلزامية من شعائر الترحيب.. لا يمكن ولا يُعقل رفضها.. قبلاتٌ سريعةٌ خاطفة.. قبلاتٌ على رؤوس الرجال.. وقبلات على أوجه مليئة بثآليل مقدسة نبت منها شعرٌ أسودٌ خشن.. مقابل قبلاتٌ على وجه ناعم لأطفال مساكين.. بعضهم لا زال لعابه يقطر فوق لباسه. .قبلاتٌ صوتية كصمّامات شفط.. ورؤوسنا عالقةٌ في أيدي أولئك النسوة.. يضغطن بها على صدورهنّ المغلفة بأردية مزهرة.. يفوح منها عبق القرنفل أيام الجمعة.. ورائحة دخان حطب المطبخ كل يوم..

لا أريد عقد مقارنات.. فاليوم أصبح كل شيء جدلاً مريراً وسخيفاً.. لكن في ذاكرتي.. كانت تلك القبلات بمثابة تصريح مرور آمن يسمح لنا.. نحن أطفال المدينة.. بدخول حرم منطقتهن وبيوتهن وغرف نومهن خلال فصول السنة.. سواء في الصيف الحار أو الشتاء المُزمهِر.. بمجرد انتهاء مراسم الترحيب.. نسحب رؤوسنا عنوة من بين أذرعهن.. ليطلقن سراحنا.. مع إننا لا نشعر أبداً بأننا صرنا بمنأى عن نظراتهن.. تتابعنا حيث سِرنا لتتولى بعض كبيرات السن حسبة أعمارنا وإدراك هل يعتني والدينا بتمويننا وعلفنا كما يجب.. في كل مرة كنا نعود أكثر إلى الساحل.. كما يعود الكثيرون اليوم إلى قراهم الأصلية.. ليس للعيش طويلاً.. ولكن بما يكفي للاستمتاع بالهواء الطلق.. حيث نشعر بالحرية والحماية.. مع مرور الوقت.. لم نعد نرى في استقبالنا بعضاً من أولئك الرجال الذين كانوا يتميزون بخشونة جلودهم وكثرة تجاعيد جبهاتهم.. والنسوة اللاتي كنّ يزغردن بوتيرة واحدة.. اعتدن عليها كأنهنّ في عرس.. رحلوا عن الدنيا كما لو كان ذلك بعقد لم يكتب.. فصِرنا نذكر فقط الكثير منهم.. بألقابهم أو كنياتهم.. وتُروى لنا بعض حكاياتهم الفكاهية التي.. من خلال التكرار المستمر.. اكتسبت قيمة قديمة الطراز.. تشبه الخرافات..

من بين مَن عرفت شخصياً.. ذلك الرجل الذي كان يخرج في عتمة الليل.. دون قميص.. حافي القدمين.. بعد أن تتولى زوجته دهن نصف جسده العلوي بزيت الزيتون.. كي يفلت حتى لا يتمكن أحد من الإمساك به.. متسترا بغلاف الظلام الذي يحيط بالمنطقة.. ليقفز أو يتسلل إلى بيوت الآخرين لسرقة بعض المقتنيات.. يقوم ببيعها في سوق الجمعة.. أو ذلك الرجل الذي كان يعود إلى بيته ليلاً ورائحة الخمر تنبعث من جلبابه.. تاركاً خلفه سحابة من عبق حامضٍ تشمئز منه الأنوف.. بعد توقفه بصورة شبه يومية.. ببار في سوق الجمعة.. يطلقون عليه “طبرنة مامّا”.. تديره عجوز شمطاء إيطالية الأصل.. تحوّل مع مرّ السنين إلى قبلة يقصدها كثير من سكان السوق والغرارات والعمروص والهنشير.. أو ذلك الذي كان يرعى عدة شياه.. من خراف ونعاج.. كثيرا ما شوهد وهو يحكي لها طول يومه عن أحواله ويشكيها همومه.. بل ويدخل معها عادة في خصام حاد.. ثم ينهرها ويعاقبها.. داعياً عليها بالموت.. ذبحاً..

الآن.. صرنا في أعمار شخوص ذلك الزمن.. رغم أننا نعُدّ أنفسنا أصغر سناً ونقاوم دخول تلك المرحلة من الحياة.. لكننا كي نواجه هذا الاحتمال نحاول تحمّل تلك الحتمية دون دراما.. فمسار الحياة الحتمي أشبه بطابور انتظار أمام مصرف أو دكان بيع لحوم.. يوماً ما.. سيأتي أطفال آخرون وسيكتبون مشاهداتهم عنّا ويروون الحكايات.. حينها سأقف بالطابور.. سأكون أول من يصطف.. سأفسح المجال للذي يليني.. لا أعلم إن كنتُ مستعداً.. لكن قبل ذلك سأعود إلى منزلي.. سأكتب قصّة.. وستكون هذه مملّة إلى أبعد الحدود.. أشبه بالوقوف في طابور لا نهاية له..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى