
* كتب/ د. محمود أبوزنداح asd84198@gmail.com
رغم مرور أكثر من أربعة عقود على اختفاء الإمام موسى الصدر، ما زالت العلاقات بين لبنان وليبيا أسيرة الماضي، رهينة الشكوك والاتهامات التي تجاوزها الزمن ولم تتجاوزها المصالح.
فبين بلدين جمعتهما القومية العربية ووحدتهما قضايا التحرر والمقاومة، تُطلّ أزمة الصدر بين الحين والآخر لتعيد فتح جرحٍ سياسي قديم، وتُغيب لغة الدبلوماسية لصالح خطاب الانفعال والتجني.
لبنان والذاكرة الانتقائية
تصرّ السلطات اللبنانية –للأسف– على التعامل مع ليبيا خارج الأطر الدبلوماسية المتعارف عليها.
فكم من باحث أو طبيب أو أكاديمي ليبي تمت دعوته رسميًا إلى مؤتمر في بيروت، ثم احتُجز لساعات طويلة في مطار رفيق الحريري الدولي، رغم حيازته تأشيرة قانونية واضحة؟
هذا السلوك يعكس ذهنية العقاب الجماعي، وكأنّ كل ليبي مسؤول عن اختفاء الإمام موسى الصدر، رغم أن القضية –كما أكدت الوثائق والشهادات– أكبر من دولة، وأعقد من شخص.
لقد طالبت القيادة الليبية السابقة بتشكيل لجنة عربية ذات صلاحيات كاملة للتحقيق في القضية، لكن الدعوات لم تجد صدى في بيروت، ولا تحركًا حقيقيًا من جامعة الدول العربية.
بل إن شهادات موثقة من شخصيات لبنانية وعربية بارزة أكدت أن ليبيا ليست الجهة المسؤولة مباشرة عن اختفاء الإمام الصدر، وأن أطرافًا إقليمية –على رأسها سوريا وإيران– تواطأت مع قوى لبنانية داخلية لإخفائه نهائيًا.
شهادات تكشف المستور
قال المفكر اللبناني الراحل جورج حاوي في مقابلة تلفزيونية عام 2002:
“الملف لا يمكن فصله عن النفوذ السوري في لبنان، ودمشق كانت تملك وحدها القدرة على تحريك أو إخفاء شخصية بمقام الإمام الصدر آنذاك.”
كما كتب الصحفي سمير قصير في مقالة له عام 2004:
“القذافي ربما كان ضحية خدعة سياسية أكبر، فالحقيقة لم تُدفن في طرابلس الغرب، بل بين دمشق وطهران.”
هذه الأقوال –وغيرها– تكشف أن القضية كانت جزءًا من صراع نفوذ إقليمي أكثر مما كانت مسألة بين دولتين عربيتين.
ليبيا الداعمة… ولبنان الجاحد
قبل هذه الأزمة، كانت ليبيا أحد أكبر الداعمين للبنان في أزماته الكبرى.
ففي سنوات الحرب الأهلية، أرسلت طرابلس الدعم المالي والعسكري، وفتحت منابرها الإعلامية لدعم المقاومة اللبنانية، وساهمت في نهضة الصحافة اللبنانية بمساندة سخية للمؤسسات والإعلاميين.
لكنّ الردّ لم يكن على قدر العطاء.
فقد انتهت تلك العلاقة بخطف هنيبال القذافي واحتجازه لسنوات دون محاكمة، في مشهد لا يعكس عدالة بقدر ما يعكس انتقامًا سياسيًا متوارثًا خلف أقنعة العدالة.
من المستفيد؟
السؤال الأهم الذي يتجنبه الجميع:
من المستفيد الحقيقي من اختفاء الإمام موسى الصدر؟
هل هو من بكى عليه أمام الكاميرات، أم من استثمر غيابه ليحكم لبنان أكثر من ثلاثين عامًا؟
الحقيقة أن القاتل ليس من ضحك أولًا أو بكى آخرًا، بل من استفاد من غياب الرجل واستثمر صمته الأبدي.
موقف ليبيا اليوم
التحرك الليبي الأخير في ملف هنيبال لا يأتي من باب المزايدة، بل من باب الواجب الوطني والإنساني، ومن حرص الدولة الليبية على حماية مواطنيها مهما كانت خلفياتهم السياسية.
لقد تعاملت الحكومة الليبية بروح الحكمة، لا بروح الثأر، مدركة أن لبنان بحاجة إلى من ينقذه من فضيحة سياسية وأخلاقية كادت أن تضعه في مواجهة القانون الدولي والرأي العام العربي.
في المقابل، لم تنسَ ليبيا أن هناك من أبنائها من اختُطفوا وسُجنوا ظلمًا، مثل بوعجيلة المريمي، الذي دفع ثمن مواقفه الوطنية، دون أن يسمع أحد صوته أو يطالب به.
ليبيا لا تبحث عن خصومة، بل عن حقيقة
وإذا كانت العدالة قد غابت يومًا عن بيروت، فإن التاريخ لا ينسى.
فالحقائق مهما تأخرت ستظهر، وسيعرف العالم أن الإمام موسى الصدر –كما ليبيا– كان ضحية صفقات وسكوت ومصالح متشابكة، لا ضحية شعبٍ ما زال يمدّ يده رغم الجراح.
لقد آن الأوان أن تتحرر العلاقات الليبية اللبنانية من أسر الماضي، وأن تعود إلى جادة الأخوّة والمصالح المتبادلة، فالأوطان لا تبنى بالثأر، بل بالحقيقة والمصارحة والاحترام المتبادل.
“قد يسكت التاريخ طويلًا، لكنه لا ينسى الذين غيّبوا الحقيقة ليحكموا بالوهم.”



