
* كتب/ محمد اللديد،
يظل النفط أكثر الموارد الطبيعية تأثيرًا في الاقتصاد والسياسة العالمية، وقدّم مثالين متناقضين حول كيفية إدارة الثروة النفطية: تجربة السعودية كنموذج نجاح واستراتيجية، وتجربة فنزويلا كنموذج تحذيري حول الاعتماد المفرط على النفط دون تنويع اقتصادي.
بدأت قصة النفط في فنزويلا عام 1908، إلا أن الإنتاج ظل محدودًا لا يتجاوز مليون برميل سنويًا حتى 1921، حين اكتشفت شركة شل البريطانية-الهولندية حوض ماراكايبو. هذا الاكتشاف أدى إلى زيادة الإنتاج السنوي إلى 137 مليون برميل، لتصبح فنزويلا ثاني أكبر دولة منتجة بعد الولايات المتحدة.
مع ارتفاع الإنتاج، تسابقت الشركات الأميركية الكبرى للسيطرة على الثروة النفطية، وتمكنت شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا من امتلاك نصف الإنتاج حتى منتصف الستينيات. ومع ذلك، ظل نصيب الدولة محدودًا، إذ كانت الشركات تستحوذ على نحو 80% من الأرباح، بينما كانت الدولة تحصل على فتات العوائد.
نهاية الخمسينيات شهدت تحوّلًا تاريخيًا في موازين القوى النفطية، عندما اتحدت كل من السعودية وفنزويلا لتقليل سيطرة الشركات الأجنبية على الأرباح النفطية. قاد هذه الخطوة عبد الله الطريقي وزير النفط السعودي وكارلوس بيريز من فنزويلا.
في 1960 تأسست منظمة أوبك في فيينا، ونجحت في تطبيق نظام تقاسم الأرباح مناصفة وفرض ضرائب وطنية على أرباح الشركات الأجنبية، وهو ما اعتُبر أكبر انقلاب نفطي في التاريخ ضد الهيمنة الأميركية.
كانت النتيجة المباشرة رفع قدرة الدولة المنتجة على التحكم في الإنتاج والأسعار، وتأسيس شركات وطنية قادرة على إدارة الثروة النفطية بشكل مستقل، مثل الشركة الوطنية الفنزويلية التي أصبحت الأكبر عالميًا في السبعينيات.
منذ تأسيس أوبك، سلكت السعودية وفنزويلا مسارات متباينة، فالمملكة العربية السعودية استخدمت العوائد النفطية في بناء اقتصاد متنوع وبنية تحتية متقدمة، وتأسيس شركة أرامكو الوطنية، فضلاً عن خطط رؤية 2030 لتنويع مصادر الدخل والتحول نحو الطاقة المتجددة، أما في الضفة الأخرى لدى جمهورية فنزويلا البوليفارية اعتمدت بالكامل على النفط، دون تنويع اقتصادي كافٍ، ما جعل الاقتصاد هشًا أمام تقلبات الأسعار، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في العقود الأخيرة.
تُظهر التجربتان أن النفط يمكن أن يكون أداة للنمو والتحرر الاقتصادي والسياسي، لكنه يتحول إلى عبء إذا غابت الإدارة الرشيدة والتخطيط الاستراتيجي. فالفرق لم يكن في حجم الثروة، بل في الرؤية الاقتصادية والقدرة على استثمار العوائد في التنمية المستدامة. وفي هذا السياق، تبرز ليبيا كنموذج محتمل للدروس المستفادة، حيث تمتلك احتياطات نفطية كبيرة يمكن أن تكون رافعة قوية للنمو الاقتصادي إذا ما اعتمدت إدارة شفافة، واستراتيجيات استثمارية مدروسة، وتنويع اقتصادي حقيقي، لتجنب الوقوع في فخ الاعتماد الكلي على النفط كما حدث في فنزويلا، والاستفادة من التجربة السعودية في تحويل النفط إلى أداة للتنمية الشاملة.



