الرئيسيةثقافة

المثل الشعبي في شعر محمد امّيمَه

يعتبر ديوانه الأخير "صاحب التاكسي" شاهدا جديدا على وعيه الفني والثقافي في التعامل مع الأمثال

* كتب/ عبدالوهاب الحداد،

تُعَدّ الأمثال الشعبية من أبرز المظاهر اللغوية والثقافية التي حافظت على حضورها في الوجدان الجمعي، إذ تتداولها الألسن في مختلف مواقف الحياة اليومية، في الأفراح والأتراح، وفي التعبير عن الحكمة أو السخرية أو العظة، وتمثل هذه الأمثال وعاء حيا لذاكرة الشعوب، إذ تختزن في عباراتها الموجزة خلاصة تجارب الناس، وتعكس ملامح هويتهم الثقافية والاجتماعية، وطرائق تفكيرهم في فترات تاريخية متباينة، فهي ليست مجرد أقوال مأثورة، بل شواهد على بنية المجتمع وقيمه ومفردات بيئته، كما أنها – بما تحمله من تكثيف لغوي واختصار بليغ – كثيرًا ما ترتبط بحكايات ووقائع شكلت مادتها الأولى، بصرف النظر عن مدى اتفاقنا مع مضامينها أو معارضتنا لها.

ومن هذا المنطلق، يغدو حضور المثل الشعبي في الشعر دلالة على عمق الثقافة الشعبية للشاعر، وقدرته على توظيف الإرث اللغوي والرمزي لمجتمعه في بناء قصيدته، فالموهبة الحقيقية لا تكمن في إدخال المثل داخل البيت الشعري حشرًا أو استكمالا لقافية، بل في إدراجه في سياق دلالي يخدم الفكرة ويثريها، فيأتي المثل منسابًا في النسيج الشعري بانسجام طبيعي لا يخل بالوزن ولا المعنى.

وفي هذا الجانب يبرز الشاعر الغنائي محمد امّيمة مثالًا معاصرًا يشهد على وعيه الفني والثقافي في التعامل مع المثل الشعبي داخل القصيدة، إذ يمتلك قدرة لافتة على استدعاء المثل وتوظيفه لخدمة الفكرة دون أن يشعر المتلقي بأنه اقتباس دخيل، فكثيرًا ما يمر المثل في شعره مرورًا خفيا، لا ينتبه إليه القارئ إلا إذا كان على دراية مسبقة بالأمثال الليبية.

ويعتبر ديوانه الأخير “صاحب التاكسي”، الصادر هذا العام، شاهدًا جديدًا على هذه الحرفية، إذ تتكاثف فيه الأمثال الشعبية التي يوظفها الشاعر توظيفًا فنيًا واعيًا، ومن الأمثلة على ذلك قوله في توظيف المثل الشعبي: “ما ينفع فَـ البايد تَرْقيع”، الذي يُضرب للدلالة على أن القديم البالي لا يُصلح بالترقيع. يقول:

قُول الشعر يبقى مْغَير زَايد ** مَع لَوْجَاع مَا يَنْفع قَصيد

وَالتَّرقيع ما ينفع فَـ بَايد ** احسن حال تَغييره بْجَديد

إذ يُعيد ترتيب المثل ليلائم القافية، ويمنحه بعدًا رمزيًا جديدًا، فحديثه ليس عن الثياب البالية، بل عن الشعر الذي يحتاج إلى التجديد والصدق في القول.

وفي مثال آخر، يوظف المثل الشعبي: “يا ماشي من غير عَزومة يا قاعد من غير فْرَاش”، فيقول:

نْخَاف نَمْشي مِن غير عَزُومة ** نْخَاف نُقْعد من غير فْرَاش

وْنَبقى واقف كيف البُومة** وَنْرَوَّح بَــ قْفَاف غْشَاش

فهو هنا لا يقتصر على استحضار المثل، بل يُكمل المشهد الغائب فيه، ويرسم صورة إنسان يعاني من الحرج والوحدة والخذلان.

كما يتناول المثل المعروف: “اللِّي تحسبه موسى يطلع فرعون”، فيُعيد صياغته بتقديم وتأخير بارعين:

فَرعون يَطْلَعلك، وْمُوسى حْسِبْتَه** جَبَّار مَتْكبر قَليل أقْدَار

خلّيه يَغرق فِي بْحُور العَار

ليوظّف بذلك المثل في سياق نقدي رمزي، يعبّر عن انقلاب المعايير وخيبة التوقعات.

أما المثل «لِبْنَادم طَبيب رُوحَه» فقد استخدمه الشاعر في بعده النفسي لا العضوي، حيث يقول:

ابْن آدم طَبيب رُوحَهعَرفت بْروحي** أسْبَاب عِلْتي وْكَثر الوَجَع وَجْرُوحي

فالشاعر هنا يذهب بالمثل إلى فضاء تأملي، يجعل من التجربة الذاتية مصدرًا للمعرفة والشفاء.

وفي موضع آخر يوظف المثل «اسْأل مْجَرب وْلَا تَسأل طَبيب»، مكتفيًا بشطره الأول فقط، إذ يقول:

وْتَلقَى البَاهِي عَ الجَّفا مَدَّربْ ** اسألني أنَا رَانِي قَديم مْجَرّب

ويبدو اختياره حذف الشطر الثاني متعمدًا، لأنه لا يتفق معه دلاليًا في سياق القصيدة التي تتحدث عن خبرة التجربة الإنسانية لا عن الطب والدواء، مما يكشف عن وعي نقدي بالمثل ذاته.

أخيرا… إن هذه الأمثلة ليست إلا نماذج محدودة من ديوان واحد، بينما تزخر دواوين محمد امّيمه الخمسة عشر الأخرى بعشرات الأمثال الشعبية الليبية التي تستحق أن تُجمع وتُحلّل في دراسة مستقلة، لما تحمله من ثراء لغوي، وتعبير عن الحس الجمعي، وتجسيد لروح الهوية الليبية في وجدان شاعر يجمع بين المفردة الأصيلة بجوار الكلمة المعاصرة في انسجام تام، دون أن يشعر القارئ بأي تنافر.

تبقى الإشارة لانفراد آخر لشاعرنا – لعله يكون موضوع مقال مستقل – وهو توظيفه لأبيات شعبية مغناة داخل قصائده بشكل إبداعي لا فت، مثالها: “بالله يا مُولى الجَمل رَكَبني، طَريقي طَويلة وْصَاحبي سَيبني” في قصيدته “اغويتاه” في ديوانه هذا، وسابقًا في قصيدته عن مدينته مصراتة وبيتها الذي يقول فيه: كيف عام كيف عامين كيف ثلاثة، يْدُور الزمان وْنَرجعوا لمصراتة”. ففي ذلك خاصية قد لا نجدها عن شاعر آخر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى