الرئيسيةفي الذاكرة

نبش في الذكريات.. اجدابيا شارع بن عيسي (1)

* كتب، وليد عمران محمد،

يعتبر شارعاً من أشهر شوارع المدينة، والأكثر تميزاً لما يحتويه من تاريخ عريق، حيث يعتبر الشارع الوحيد الذي لم يتغير اسمه منذ تأسيسه وحتى الآن..
الشارع الذي تمتد على جانبيه البيوت القديمة تناثرت عليه المطبات، وثمة به مسجد صغير متواضع، في أزقته رائحة الشاي الممزوجة مع عبق عراقة الأبنية، يحيطه الهدوء وتسكنه البساطة وتسوده الألفة.
يحتضن البيوت القديمة الصامدة بوجه الزمن ومتغيراته، إنهُ شارع بن عيسي، هذا الشارع الحالم بين شوارع المدينة، يستقبلك بأنفاسه العطرة المشبعة بأريج الأزقة والدروب العتيقة، تعود تسمية الشارع إلى أحد علماء القرن التاسع عشر، شيخا عاصر زمن انهيار دولة بنى مرين وتوحيد دولة المغرب، يدعى الشيخ محمد بن عيسى، وأطلق اسم بن عيسى على الشارع نسبة له في ذلك الزمان.
أزقته القديمة توحي بعبق الحنين إلى الماضي حيث البساطة والألفة، إذ غالباً ما تترك الأحياء الشعبية أثرها في النفوس، شارع بن عيسي في مدينة اجدابيا حديث لا ينتهي من الحكايات والأحداث، كما أنه عريق بتراثه وهويته في الحاضر، أزقته المتداخلة بالمحبة، بيوته المتلازمة وكأنها بيت واحد، عبق الماضي الجميل يملأ الأزقة القديمة في اجدابيا، يدخل بيوت حي بن عيسى، يحكي عن قصة هذا الحي، والذي بنيت سقوف منازله من الخشب وجذوع النخل.
شارع بالنسبة للأحياء المحيطة به داخل اجدابيا مثل القلب من الجسد، فهو مقصد من أراد الاستمتاع بسحر اجدابيا القديمة، في اجدابيا المدينة شخصيات لها أثر في المجتمع الإجدابي، من أساتذة ومربين وفقهاء، وكل واحد منهم يتميز بعطائه لأبناء اجدابيا، وكان شارع بن عيسي يضم شخصيات دينية وفنية مشهورة، ومن العلماء الجهابذة المتبحرين في مختلف أنواع العلوم الشرعية، من فقه ولغة ومنطق وبيان، الذين كان لهم إشعاع علمي وحضاري مضيء، تجاوز المدينة إلى مناطق أخرى، وهنا لا يغيب عنا الحديث عن اسم لامع في مجال الفقه، ظهر من رحم هذا الشارع، ألا وهو الشيخ المرحوم “عيسي الفاخري”. تضيء ذاكرة التعليم في اجدابيا بصورة المدرسة، ليكون من أوائل الطلبة المنضمين في فصولها الشيخ عيسى، قبل أن يضطره افتقار المنطقة إلى مؤسسات التعليم العالي إلى استكمال دراسته في مدينة البيضاء.

حرصت اجدابيا ومنذ قرون علي تعليم أبنائها لتمكينهم من النصيب الوافر من التعليم والمعرفة، والثقافة الإسلامية الأصيلة، وتوعيتهم بأمور دينهم ودنياهم، من خلال الكتاتيب المنتشرة في ربوع ليبيا.
فقبل وجود المدارس والمعاهد قديما أنشأ أهالي المدينة في كل حي (نجع) دارا للتعليم، فكانت الكتاتيب موزعة بكثافة، تحتضن الطلاب، يلتحق بها الراغبون في تنمية ثقافتهم الشرعية، فالكتاتيب توفر لهم كل الظروف المواتية للتحصيل والتعليم، ومن هنا تجد نفسك في مجتمع متنوع رغبته شديدة في معرفة العلوم، فالثقافة في مدينة اجدابيا وجدت حضنا دافئا في كل بيت.
ففي فترة الخمسينيات لم يكن عدد المدارس في اجدابيا يتجاوز المدرستين، يدرس فيهما أقل من مائة طالب، ولم تكن الأراضي الإجدابية تتوفر على البنية التحتية اللازمة لتطوير قطاع التعليم آنذاك، كان الشيخ يحظى بمكانة مرموقة بين أهالي المدينة، إذ كثيرا ما كان يقصده العامة والخاصة لطلب النصح.
ففيما مضي كان طلاب العلم في اجدابيا وهم يسلكون شارع بن عيسي تواجههم إشكالات علمية معينة، فما عليهم إلا أن يطرقوا باب الشيخ عيسي الفاخري ليجدوا الحل بانتظارهم.
اليوم عفا الزمن على كل ذلك، وتلك سنة الله في خلقه، كان كبار السن وحتى المتقاعدين من أبناء الحي يشكلون مجموعات تتنافس فيما بينها في لعبة، أو ما يعرف لدى عامة الناس بالسيزة، والتي تلعب بين اثنين، حيث تستقطب العديد من الفضوليين، تمر الأيام وينطوي سجل العمر، لكن لهذه الأزقة الصغيرة ذكريات باقية على مر الزمن، لاشي يحلو عند الاجدابيون القدامى غير الحديث عن ذكريات الزمن الجميل، تتقادم السنون على بيوت حي بن عيسى، لم يغير طرازها المعماري حتى يومنا هذا، فلا يكاد بيت يخلو من سقيفة، حرص ساكنوها على إبقائها على وضعها العتيق.

عاش في هذا الحي العديد من القبائل تربطهم وشائج الجيرة والطيبة والمحنة، شارع بن عيسى خرّج الكثير من الطاقات الشبابية، ولا يزال بمثل نمط الحياة التقليدية الذي كان سائدا في اجدابيا منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتي سبعينات القرن العشرين، حيث المباني متراصة بشكل تلقائي، حيث استطاع المجتمع الإجدابي أن يحافظ على موروثه من التراث الإنساني، من ذلك عنايته بالفن المعماري الإنساني، والتآلف المجتمعي الذي يتم عبر تماسك بيوته وتجاور منازله وتقارب بنياته، والنمط المعماري لبعض المنازل بالشارع يدخل في بنائها الطين والحجارة، تحكي هذه المواد الممثلة في الطين والأخشاب والحجارة قصة تشبت الإنسان بالأرض، فيما تختصر صوامع الجوامع شموخ حاضِرة المدينة.

إن البيت الإجدابي مر بمراحل تطور كثيرة خلال الفترة الماضية من حيث المواد المستخدمة للبناء وكذلك تصميم المنزل وحجمه، وبدأت البيوت بسيطة صغيرة، والمادة الأساسية المستخدمة للبناء هي الطين والحجر في كل شيء.. الطراز المعماري هنا شكل تناغما وتناسقا لا مثيل له، يتجسد في تلك المنازل الحجرية المتراصة إلى جانب بعضها البعض، ومن ناحية المضمون فقد استخدم الليبيون قديما المواد الطبيعة في البناء كالحجارة ما تعرف بي ابلك خمسين، إضافة إلى الطين، وانتهاء بالخشب بطريقة فنية واقتصادية.

طين، حجارة، قش، جذوع الأشجار، تفل البحر استطاع البناء الإجدابي إرساء دعائم هذه المنازل لتبقى شامخة، تسجل بمداد الفخر والاعتزاز تاريخ هذه الإبداعات، فبهذه المواد مجتمعة تتوفر عناصر القوة والمتانة، إضافة إلى الكثير من الدفء والجمال، كما أنها تحقق ظروفا مناخية مناسبة صيفا وشتاءً، مقارنة بالمادة الخرسانية، وتدل هذه المباني على عظمة البنّاء و براعة أنامله في هذه الربوع من ليبيا، ويتضح ذلك من خلال طريقة البناء الفريدة، كما أن الأشكال الهندسية التي بنيت بها هذه المنازل، هي دليل على مهارة البناء في حقبة تنعدم فيها وسائل البناء المتطورة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى