
* كتب/ د. محمود أبو زنداح asd841984@gmail.com
يُعَدّ فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي (1821 – 1881) أحد أبرز رموز الأدب العالمي، وقد شكّل إنتاجه الروائي والفكري منعطفاً حاسماً في مسار الفكر الإنساني الحديث.
فالرجل الذي وُلد من رحم المعاناة، وجُرِّبَ في ذاته العذاب والسجن والمرض، لم يجعل من الألم عائقاً، بل حوّله إلى أفق فلسفي وأدبي يرى في المعاناة وسيلة للانفتاح على الآخر. لذا، لم يكن غريباً أن يتحول من مرحلة الإلحاد والإنكار إلى صياغة رسالة الغفران والإيمان، مقدّماً بذلك نموذجاً إبداعياً يؤكد أنّ الألم ليس مجرد تجربة فردية، بل رافعة للتأمل الكوني.
أعمال دوستويفسكي لم تبقَ حبيسة الأدب بمعناه الضيق، بل عبَرت إلى فضاءات الفلسفة وعلم النفس، حتى غدت مادةً أساسية في الجامعات العالمية. إنّ الرواية لديه ليست شكلاً فنياً فحسب، بل مختبرٌ فلسفي يُختبر فيه وعي الإنسان وصراعه مع الحرية، والخطيئة، والفداء. بهذا المعنى، صار دوستويفسكي مرآة للروح الروسية، في مواجهة ما وُصف تاريخياً ببرودة روسيا السياسية وقسوتها العسكرية.
مع ذلك، لا يمكن فصل أدبه عن سياقه القومي والسياسي. ففي أواخر حياته، أعلن دعمه للقضية السلافية خلال الحرب ضد الدولة العثمانية عام 1876، وحلم بتحويل القسطنطينية إلى مركز للمسيحية الأرثوذكسية. وهنا تتجلى المفارقة: الكاتب الذي بشّر بالكونية والإنسانية انحاز –في لحظة تاريخية– إلى نزعة قومية دينية. وربما لهذا السبب بدا على النقيض من مواطنه ليف تولستوي، الذي جسّد اتجاهاً أكثر تحرراً ونزوعاً إلى السلم والكونية.
في هذا السياق، يستدعي تصريح هنري كيسنجر، حين قال إن فلاديمير بوتين “وُلد من رحم دوستويفسكي”. فالأمر لا يتصل بمجرد تقارب في المواقف السياسية، بل باستبطان للعمق النفسي والروحي الذي يميّز الفكر الروسي. إنّ رواية الأخوة كارامازوف، التي حاول فيها دوستويفسكي تقديم رؤية عن وحدة الأمة وتماسكها، تبدو اليوم وكأنها إطار رمزي لسياسات بوتين في إعادة جمع بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي. فالأخت الكبرى في الرواية التي تغادر ثم تعود، هي صورة رمزية للأقاليم التي تنفصل عن روسيا لتعود إليها في وقت آخر.
غير أنّ الثقافة ليست انعكاساً مباشراً للسياسة. قرار بعض الجامعات الأوروبية –ومنها إيطالية– بحظر تدريس الأدب الروسي، شكّل مثالاً على التباس العلاقة بين الثقافة والصراع السياسي. فالأدب، بطبيعته، يتجاوز حدود الجغرافيا، ويستعصي على المصادرة. إنّ نصوص دوستويفسكي لا تنطق باسم “روسيا الرسمية”، بل باسم الإنسان في مواجهة مع ذاته وقدره. فهي، وإن انبثقت من سياق قومي محدد، تظل نداءً كونياً يتخطى الانتماءات.
في هذا الأفق، يقف دوستويفسكي إلى جانب أعلام مثل سيغموند فرويد، وجيمس جويس، وويليام فوكنر، وإرنست همنغواي، في تأسيس الرواية كفضاء للتفكير الوجودي والأنثروبولوجي. إنّ القيمة الكبرى لأدب هؤلاء ليست في القدرة على السرد وحدها، بل في جعل التجربة الإنسانية –بآلامها وتمزقاتها– موضوعاً للفكر والكتابة.
لكن، إذا كانت روايات دوستويفسكي قد مثّلت “الرواية الصغرى” لمعاناة روسيا وأوروبا في القرن التاسع عشر، فإن ما يحدث اليوم في فلسطين، وفي غزة تحديداً، يمثّل “الرواية الكبرى” للإنسانية المعاصرة. إنها رواية تُعاش على مرأى العالم: دماء، حصار، دمار، وألم جماعي يتجاوز حدود التمثيل الأدبي. هنا يبدو واضحاً أنّ أي أديب –مهما بلغ عمق تجربته– قد يعجز عن الإحاطة بما يجري، لأن الواقع نفسه صار أبلغ من الخيال.
من هنا، تنبثق مسؤولية المثقف العربي والإنساني: ليس مجرد استعادة صدى الألم أو إعادة إنتاج المأساة، بل تحويل الكلمة إلى فعل نقدي ومقاوم، وجعل الفكر أداة لإعادة بناء الإنسان في مواجهة الاستلاب والتدمير.
وإذا كان دوستويفسكي قد صاغ معاناة روسيا في القرن التاسع عشر، فإن المثقف المعاصر مدعو لصياغة “الرواية الكبرى” لزمننا، حيث تتحوّل غزة إلى مرآة تكشف جوهر إنسانيتنا جميعاً.