
* كتب/ وليد عمران محمد،
في هذا الشهر المبارك ربيع الأول ولد النبي محمد صلي الله عليه وسلم خاتم الرسل، بعثه الله جلت قدرته لتوحيد الأمم وليخرجهم من الضلالة إلى الهدى.
وليبيا منذُ عقود طويلة في صدارة البلدان التي تُعلي شأن رسولها وتبجل يوم مولده، باحتفالات عفوية تسود معظم المدن والقرى والأرياف، دون سبغها بأي خرافاتً تجاوزها الزمن، ومنطق العقل السوي، هذه العادات التي يحيها الليبيون منذُ القدم تهدف إلى أحياء سيرة خير البرية والإنسانية، وليس ما تشهده معظم زوايا ومساجد المدن الليبية إلا رموزا للحب تعكس وسطية المنهج، لتغمر أبناء المدن بأجواء دينية مفعمة بالروحانية تتعطر بها النفوس وتذكرهم بالقيم الأصيلة، ففي كل ذكرى تلتقي الأنفس بأعظم احتفالية يحييها الليبيون بالتوارث عن الأجداد، ذكرى المولد بسيطة في ظاهرها وعميقة في فلسفتها، لا تدخل أي جهة رسمية في تنظيمها أو تمويلها، فهي عادات وتقاليد ورثها أبناء ليبيا ابنا عن جد، إرث ديني كان ولا يزال قائماً، يحثنا على التشبث بديننا في ليلة تُحيي بذكر الله والصلاة والسلام على خير الخلق، الحبيب المصطفى صلى الله عليهـ وسلم ذكراً ومناقب نبوية علا صداها في أرجاء البلاد، وصدح حناجر المؤمنين عطّر مسامع الحاضرين بذكر رسول الرحمة محمد صلي الله عليه وسلم، ومن الجميل أن تخلد ذكريات الأجداد وماضي عوائدهم، لاسيما العادات الروحانية منها، وكذا تفاصيل سادها الحب والتكافل.
ويظل تمسك الأحفاد بتلك العادات من أهم ما يميز عيد المولد النبوي قديما، حيث ألف أطفال المدن إحياء مناسبة المولد النبوي الشريف من خلال الالتقاء ليلا، للتكبير والتهاليل، حيث تبدأ تحضيرات الاحتفال من مطلع شهر ربيع الأول، إذ تسمع من المساجد والزوايا قراءة جماعية، وكان المواطنون يحرصون على الحضور واصطحاب الأطفال، الذين كانوا يرددون شعارات وأبيات تعاقبت عليها أجيال، وعلى هذه الصيحات ينطلق الاحتفال في جو بهيج، على أنغام تصدح بها المدن، حيث يتجمع رجال وأطفال كل مدينة ليضعوا لوحة جميلة في أجواء احتفالية، يشعر الجميع فيها بالسعادة والفرح، وتشهد مشاركة الجميع بشكل ملحوظ، تتألق الشوارع بالألوان الزاهية والأضواء الساطعة، وتملأ الهمسات البهجة والسرور، مما يجعل هذا الاحتفال لحظة فريدة، ولا تنسى في قلوب الحضور يوما واحدا.. عيد المولد هو مناسبة لإحياء التراث بامتياز كما هو المعتاد، وهنا يندرج إحياء الاحتفال بطقوسه وفرحته وأهازيجه، ولأن مدينتي اجدابيا حبلى بالتراث فإن أهلها يحرصون على إحياء هذه السنة النبوية، وفق طقوس توارثوها عن جدودهم في ليبيا عموماً وفي اجدابيا علي وجه الخصوص، بمشاعر الحب لخير خلق الله، وبتلاوات وبذكر نبي الرحمة اصطف الجميع، الصغير والكبير إحياءا لذكرى مولد الهدى محمد صلي الله عليه وسلم، حيث توهجت قصائد المدح والثناء، ورددت دون توقف صلاتهم عليه نفحات روحانية وتراث أصيل، ذو دلالات عميقة تكسر جدار الصمت في مناسبة دينية عظيمة متوارثة عبر الأجيال، هذه هي احتفالات ذكرى مولد خير البرية عند أهالي ليبيا بعاداتها وتقاليدها وفلسفتها الراسخة فرحاً و تهليلاً.
يفيض المولد النبوي نوراً وروحانية، يجمع المسلمين في أصقاع الأرض على التباهي بهذا اليوم، يوم الخلاص من براثن العنصرية والطبقية والعصبية العمياء، وتأسيس مبدأي العدل ومساواة ناظمة لشؤون البشر في كل مكان وزمان، جاء مولد النبي هادماً لفوارق الجاهلية وأدران توابعها، معلنا أن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وبهذه الفعاليات تتجسد مظاهر الاحتفال بحلول عيد المولد في ليبيا، ناهيك عن أجواء الاستقبال في المنازل والأسواق التجارية، إلا أن الترحيب عبر مآذن المساجد والزوايا يحمل البشرى ويضيف أجواء من البهجة في نفوس المجتمع، يكون هذا الترحيب عادةً قبل المولد بعشرة أيام، فكانوا قديما يحتفلون به عشر ليال كاملة، فهي ليلة ليست ككل الليالي، ففيها يجتمع أفراد العائلة الكبيرة، والجيران والأقارب بفرح وسرور، وعادات وتقاليد على أمل يحذو الجميع أن تكون سنة ملؤها الخير الوفير، خاصة ما تعلق بشأن الغيث النافع، وهي عادات وتقليد مازالت راسخة في الأذهان إلى يومنا هذا، وخلال عشر ليال تستمر وسط حضور وتفاعل شعبي كبير يضيف لأيام المولد روحانيته.
ففي معظم الزوايا بوسط مدينة اجدابيا كانت تتفتق القرائح وتتعالى الأصوات بذكر الله، لا فرق هنا بين عربي وعجمي، أبيض وأسود، إلا بالتقوى والأخلاق، فكان يفتح باب التجديد والاجتهاد لمن يخدم الرسالة المحمدية ويعلي كلمة الله، التي ظلت وما تزال وستبقى هي العالية، إلى ما شاء الله، ومن الأصوات العذبة التي سحرت القلوب بصفائه وروحانيته وبقي صوته في ذاكراتنا وارتبط بعيد المولد النبوي، وتربينا علي نغماته وموشحاته.. إنه المنشد الراحل حمدو فركاش، ويعد من أشهر المنشدين لزمنه، وقد توفي في اجدابيا.. واجدابيا غنية بالأصوات وفرق الإنشاد والموشحات، لم نسمعها ولم نسمع عنها شيئا، وذلك يعود إلى طبيعة أهل اجدابيا/ وعدم رغبتهم بالإنشاد خارج اجدابيا، فهم مصرون على أن تبقى أصواتهم بينهم، فاجدابيا بكل أحيائها وحاراتها وشوارعها وزواياها وبيوتها جعلت من الإنشاد والغناء والشعر ركنا تتربع عليه المجالس الفنية الغنية بالشعراء، والموسيقيين والمطربين والمنشدين.
تحولت ذكري المولد النبوي إلى مناسبة تجمع الأهالي وتدخلهم في طقوس من الذكر.. والحضرة إحدى الطقوس الاحتفالية بالمدينة، وتتضمن الحضرة مجموعة المنشدين العروسية والقادرية العيساوية الذين كانوا يقومون بسرد القصائد والمدائح، ويحرص أبناء المدينة على تحضير “العصيدة” وتناولها صبيحة المولد النبوي، كانت جُل بيوت وسط البلاد من الطين، وأبوابها من خشب، فكانت تعانق رائحة المكان أصالة الزمان الممتد، بعادات وتقاليد كانت وحتي زمن قريب تحييها المدينة القديمة، عشية كل الاحتفالات بالأعياد عادات وتقاليد فيها الكثير من الحب والتكافل والتآزر وصلة الرحم، ولأنها بكل هذه القيم السامية ومن أجل الحفاظ عليها وترسيخها في أذهان هذا الجيل لنقلها للأجيال القادمة مثل ما وصلتنا من الأجيال السابقة.
فقد تداعت ذكريات الأهالي استرسالاً وتوصيفاً جميلا لطقوس الاحتفال التي كانت تؤطر وترافق المولد النبوي وعشوراء.. ولعاشوراء طقوس دأبت ربات البيوت في تجسيدها كتحضير ما لذا وطاب من أطباقً تقليدية كالفول والحمص، وتمسك بإحياء ذكرى المولد، كما كان في الماضي يعد تمسكا ً قويمًا بتعاليم الإسلام ويحرص الليبيون عليه في تربية أجيالهم صبيانا وصبية فيشبون منذ نعومة أظفارهم واعين .