تاريخ بعثات التنقيب عن الآثار في ليبيا: رحلة لاكتشاف حضارة عمرها آلاف السنين

* كتب/ محمد المهدي زعبية،
تُعد ليبيا واحدة من أغنى دول حوض البحر الأبيض المتوسط بالمواقع الأثرية، حيث تمتد حضارتها إلى آلاف السنين، من عصور ما قبل التاريخ إلى الحقبة الرومانية والبيزنطية، مرورًا بالحضارة الإغريقية والفينيقية. وقد كان لهذه الكنوز التاريخية دور بارز في جذب بعثات التنقيب الدولية منذ مطلع القرن العشرين، في رحلة متواصلة لكشف أسرار الماضي.
البدايات: مطلع القرن العشرين
بدأت أول أعمال التنقيب المنظمة في ليبيا في أوائل القرن العشرين، إبان الاحتلال الإيطالي ، ركزت البعثات الإيطالية آنذاك على استكشاف المدن الإغريقية القديمة في شمال شرق ليبيا، خصوصًا مدن قورينا (شحات) وتوكرة وبرنيق (بنغازي القديمة).
وكان عالم الآثار الإيطالي جيان باتيستا غاشي من أبرز الرواد الذين ساهموا في الكشف عن آثار قورينا، التي تعود إلى القرن السابع قبل الميلاد، وتُعد من أعظم المستوطنات الإغريقية في شمال أفريقيا.
وفي الغرب الليبي، جرت أعمال تنقيب مكثفة في مدينتي لبدة الكبرى وصبراتة، حيث كشفت البعثات الإيطالية عن مسارح رومانية ضخمة وفسيفساء نادرة، ما جعل هاتين المدينتين من أبرز المواقع الرومانية في العالم.
مرحلة ما بعد الاستقلال: التعاون الدولي
بعد استقلال ليبيا عام 1951، شهدت أعمال التنقيب نقلة نوعية، إذ فتحت الدولة الباب أمام بعثات دولية، خاصة من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
ومن أبرز الاكتشافات في تلك الفترة:
ستينيات القرن الماضي: البعثة الأمريكية من جامعة ميتشيغان عملت في مدينة لبدة الكبرى، حيث أعادت ترميم قوس سيبتيموس سيفيروس وأجزاء من المسرح الروماني.
البعثة الفرنسية: ركزت على مدينة صبراتة وكشفت عن عدد من اللوحات الفسيفسائية المميزة.
بعثة بريطانية: قادت عمليات مسح في منطقة الجبل الأخضر، موثقةً القرى الإغريقية القديمة.
كما بدأت في هذه المرحلة أعمال المسح الأثري في الصحراء الليبية، خصوصًا في منطقة فزان، حيث تم العثور على نقوش صخرية تعود إلى آلاف السنين، تكشف عن حضارة صحراوية متقدمة.
التنقيب في الجنوب: أسرار حضارة
في سبعينيات القرن العشرين، وُجه الاهتمام إلى الجنوب الليبي، حيث عملت بعثات مشتركة ليبية ودولية في وادي الحياة وجرمة للكشف عن آثار حضارة الجرمنت، التي ازدهرت بين الألفية الأولى قبل الميلاد والقرن الرابع الميلادي.
وكشفت التنقيبات عن نظام ري متطور يُعرف بـ”الفجارات”، إضافةً إلى حصون وأسوار تُظهر مستوى متقدماً من التنظيم العمراني.
التحديات الحديثة
منذ عام 2011، واجهت أعمال التنقيب تحديات كبرى بسبب الأوضاع الأمنية، ما أدى إلى توقف العديد من البعثات الدولية وخطر تهريب القطع الأثرية.
ومع ذلك، تواصل مصلحة الآثار الليبية جهودها لحماية التراث، بالتعاون مع منظمات مثل اليونسكو، والتي أدرجت مواقع لبدة الكبرى وصبراتة وقورينا على قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر.
إرث حضاري للعالم
تُظهر رحلة التنقيب في ليبيا حجم الإرث التاريخي الذي تحمله البلاد، إذ تحتضن شواهد حضارية تمتد من نقوش ما قبل التاريخ في تدرارت أكاكوس، إلى أعمدة المعابد الإغريقية في شحات، وصولاً إلى المدرجات الرومانية في لبدة وصبراتة.
ويؤكد علماء الآثار أن ليبيا تمثل جسرًا حضاريًا بين أفريقيا وأوروبا، وأن حماية آثارها مسؤولية مشتركة، محليًا ودوليًا.
أبرز المواقع الأثرية المكتشفة
قورينا (شحات): أقدم مدينة إغريقية في شمال أفريقيا، تأسست عام 631 ق.م.
لبدة الكبرى: مسقط رأس الإمبراطور الروماني سيبتيموس سيفيروس، وتضم مسرحًا يتسع لآلاف المتفرجين.
صبراتة: ميناء تجاري روماني شهير، يضم واحدة من أجمل المسارح الكلاسيكية.
جرمة: عاصمة حضارة الجرمنت، اشتهرت بنظامها الزراعي المعقد.
تدرارت أكاكوس: موقع نقوش صخرية يعود إلى 12 ألف عام.
إن تاريخ بعثات التنقيب عن الآثار في ليبيا هو قصة شغف علمي وصراع لحماية الذاكرة الإنسانية. وبينما تكشف الرمال كل يوم عن أسرار جديدة، يبقى الحفاظ على هذا التراث مسؤولية وطنية تتطلب الوعي المجتمعي والدعم الدولي، لضمان أن تبقى ليبيا منارةً للتاريخ والحضاره .