
* كتب/ محمد جمعة البلعزي،
أحياناً.. حب الوطن وتقديسه يبعث الحماس وشدّة البأس في بعض الناس.. إلى حد قيامهم.. رغم قلة العدد والعتاد.. بإعلان الحرب على أعتى القوى العظمى لكونها تجرأت على الاعتداء على وطنهم أو إهانته.. أسوق لكم بعض الأمثلة..
في إسبانيا.. روح العداوة ضد فرنسا تعم عدة قرى الأندلس الحالي.. بدأت في مطلع القرن التاسع عشر.. ولم تنته حتى أواخر القرن العشرين.. في 1808.. طلب امبراطور فرنسا.. نابليون بونابرت.. من ملك اسبانيا السماح له بإرسال قوات فرنسية لعبور أراضي إسبانيا.. المجاورة.. بغية احتلال البرتغال.. الملاصقة..
بتواطؤ مع فرنسا.. وافق الملك الاسباني.. فدخلت قواتها وانتشرت بمختلف مناطق اسبانيا.. بدأت حملة السيطرة.. ليس على البرتغال بل على اسبانيا ذاتها.. انكشفت الخديعة.. كانت نية بونابرت احتلال إسبانيا.. ثم البرتغال في خضم حملته الاستعمارية التوسعية.. ثار الشعب الإسباني.. وقعت معارك دامية بين السكان الإسبان وقوات فرنسا.. أشدّها معارك قرية بيلين شمال محافظة جيان الأندلسية.. وقرية هويسكار في غرناطة.. وموستوليس في مدريد.. هرب الملك إلى فرنسا.. فنصّب بونابرت أخاه جوزيب ملكاً على اسبانيا.. وفي النهاية لم يحقق بونابرت حلمه.. أسفر الغزو عن خسائر فادحة في قواته.. مات الكثير من جنوده وفرّ من نجا منهم إلى فرنسا.. ورغم انتصار أهل اسبانيا في الحرب.. إلا أن لهب الانتقام والثأر ظل عائشاً ولم يخبت في قلوبهم..
– قرية “ليخار”.. تابعة لمحافظة “ألميرية” الأندلسية.. كان مسلمو الأندلس يسمونها “الدسار” في لهجتهم.. وتعني سلسلة جبال أو صخور.. اسم لا أثر له في العربي الفصيح..
في أكتوبر 1883.. أعلن مجلس بلدية ليخار الحرب على فرنسا للرد على المعاملة المهينة التي لقيها ملك اسبانيا ألفونس الثاني عشر خلال زيارة رسمية إلى باريس. بدأت القصة عندما عبر الملك إلى فرنسا قادماً من ألمانيا.. بعد زيارة لها ولدول أخرى مجاورة.. تولى خلالها مناقشة توحيدها ضد رغبة فرنسا التي اعتبرتها إهانة لكبريائها.. وكما كان متوقعاً.. لم يُستقبل ملك اسبانيا في فرنسا ببرود شديد فحسب من قِبَل رئيس البلاد.. بل واجه عداءً سافراً من حشدٍ غفيرٍ من أهل باريس أطلق صيحات استهجانٍ وسط هتافات بالموت لإسبانيا.. بمجرد وصوله إلى إسبانيا، تلقّى الملك تكريمين.. أحدهما في مدريد.. حيث استُقبل بحفاوة، ورافقه حشدٌ كبير من الناس إلى القصر الملكي.. والآخر في قرية ليخار.. حيث قرر مجلسها البلدي بالإجماع شن الحرب ضد “الأمة الفرنسية”، موجّهًا خطاباً رسمياً إلى رئيس الجمهورية الفرنسية.. بعد أن أبلغ حكومة إسبانيا بالقرار..
لم تقع الحرب لكن قرار إعلانها ظل قائماً 100 عام بالضبط.. وفي 30 أكتوبر 1983.. جرى توقيع اتفاق سلام بحضور السلطات السياسية والعسكرية من كلا الطرفين المتحاربين..
– قرية “هويسكار”.. كانت قرية هويسكار الهادئة.. التابعة لقضاء غرناطة.. في حالة حرب مع الدنمارك لمدة 172 عاماً.. بعد أن أعلنت الحرب عليها في 1809، بسبب وقوف الدنمارك إلى صف الفرنسيين خلال الاحتلال النابليوني لإسبانيا.. حكومة إسبانيا اكتفت بقطع علاقاتها معها على الفور.. لكن قرية هويسكار أعلنت الحرب عليها.. ورغم أن الحرب لم تقم.. إلا أن إعلان الحرب ظل سارياً تحسباً لأي طارئ.. في 1981.. أعاد مجلس بلدية هويسكار تسليط الضوء على الحادثة.. بعرض وثيقة تشهد على أن حالة الحرب قائمة منذ 1809.. فقرر توقيع إعلان سلام مع الدنمارك في العام نفسه.. وإبرام اتفاقية توأمة مع مدينة كولدينغ الدنماركية..
– قرية “أوخيخارس”.. تابعة لقضاء غرناطة.. في 1983 قامت قوات المارينز الأمريكية بغزو جزيرة “جرينادا” بالبحر الكاريبي.. اسم جرينادا تحريف في النطق الأمريكي لاسم غرانادا (غرناطة) الاسباني.. لمجرد سماع الخبر قام مجلس بلدية قرية “اوخيخارس” بإعلان النفير بين سكان القرية.. معلناً أن المارينز الأمريكان غزو “غرناطة” الأندلسية.. عاصمتهم.. أسرع مئات الشباب إلى تسجيل أنفسهم في قوائم التجنيد لتشكيل قوة أطلقوا عليها اسم “المغاوير”(ALMOGAVARES) لردع العدوان وتحرير غرناطة.. أبلغ رئيس المجلس البلدي السلطات العسكرية بمدينة غرناطة العاصمة عن استعداده لإصدار أمره بتسيير جحافل المجندين نحو العاصمة.. لكن الرد جاءه فوراً.. “نأمركم بإلغاء الأمر وتسريح المجندين.. فغرناطة التي تم احتلالها تبعد عناً بـ 7.100 كيلومتراً”..
الخلاصة: إذا أحب قوم وطنهم.. فالثأر ممّن اعتدى عليه أو أهانه.. لن تطفئ جمره السنوات ولا القرون.. بل يظل أمانة في أعناق أجياله..