
* كتب/ محمد اللديد،
إن كسر السوط لا يعني فقط إزالة يد الجلاد، بل الأهم أن نُخرج صورة السوط من عقولنا نحن، فالأخطر من الاستبداد السياسي، هو الاستبداد الذهني الذي يجعل الضحية تكرر سلوك الجلاد دون وعي، ويجعل المجتمع بأكمله رهينة لدائرة مغلقة من العنف الرمزي والفعلي.
نحن نعيش في مجتمع، حيث السلطة لم تعد محصورة في يد الدولة فقط، بل أصبحت مبثوثة في تفاصيل الحياة اليومية: في العلاقات الأسرية حيث يتحول الأب إلى جلاد لأبنائه بحجة التربية، وفي المؤسسات التعليمية حيث يُقتل الإبداع باسم الانضباط، وفي فضاءات العمل حيث يُقصى الناجح لأنه “يزعج الآخرين”، بل وحتى في الحياة الاجتماعية البسيطة حيث يُعتبر طموح الفرد تهديدًا لا يستحق التشجيع.
إن كسر هذا السوط يبدأ من تفكيك آليات إنتاجه داخلنا. لا يكفي أن نطالب بحرية سياسية أو تنمية اقتصادية، ما لم نحرر أنفسنا من ثقافة “التشفي”، و”نظرية المؤامرة الاجتماعية” التي ترى أن كل نجاح فردي هو نتيجة الخروج عن العادات.
الخطوة الحاسمة هنا هي زرع ثقافة الاعتراف بالآخر، لا كخصم، بل كشريك محتمل في البناء. فمجتمع يقدّر التعاون بدل التنافس المَرَضي، سيتحرر تدريجيًا من “عقدة السوط” لأنه سيخلق آلية لمكافأة النجاح بدل معاقبته. ومن ثم، يتحوّل النجاح الفردي إلى قصة أمل جماعية لا قصة حسد وانتقام.
لكن هذا التغيير لا يتم عبر الشعارات العامة، بل عبر ممارسات صغيرة تتراكم: أن يتعلم الطفل في بيته أن تفوق أخيه هو نجاح للعائلة كلها، وأن يعتاد الطالب في المدرسة على فكرة أن مساعدة زميله ليست ضعفًا بل قوة تعاونية، وأن يُكافأ الموظف الذي يرتقي بأداء فريقه لا من يعزل نفسه لتحقيق أرقام فردية. هنا فقط نبدأ بكسر الحلقة.
السوط الحقيقي هو في ذواتنا عندما نستبطن الهزيمة كقدر، وننظر إلى النجاح بعين الريبة، ونرى في الآخر عدوًا طبيعيًا.
ولا يخفى أن الطريق طويل، لأن تحطيم هذا السوط يتطلب ثورة ثقافية هادئة ولكن عنيدة، تبدأ من البيت، وتُترجم في المدرسة، وتنعكس في الإعلام، وتُكرّس عبر القوانين التي تضمن تكافؤ الفرص لا المحاباة، وتكافئ الكفاءة لا الولاءات.
وبالتالي، ليست المشكلة في وجود “السوط”، بل في قناعتنا أنه قدر محتوم. وعندما ندرك أننا نحن من نمسك به أحيانًا – سواء بوعي أو بغير وعي – نكون قد قطعنا نصف الطريق نحو التحرر.
الحرية الحقيقية تبدأ حينما نكسر السوط داخل رؤوسنا قبل أن ننتزعه من يد الآخر..