
* كتب/ فرج بلعيد،
تشهد ليبيا منذ ثلاثة أشهر تصاعدًا متسارعًا في حجم الأزمات، على نحو بات يهدد الاستقرار الاقتصادي والأمني والاجتماعي في عموم البلاد. فقد شهد سعر صرف الدولار أمام الدينار الليبي ارتفاعًا غير مسبوق، أدى إلى انهيار القدرة الشرائية للمواطن، وارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكل أربك الأسواق وزاد من أعباء الحياة اليومية.
كل ذلك يحدث في ظل غياب تام لأي تدخل حكومي فعّال، واكتفاء الجهات الرسمية بإصدار بيانات مقتضبة لا تعكس واقع الأزمة ولا تحدّ من تداعياتها.
في موازاة هذا الانهيار المالي، عادت الاشتباكات المسلحة لتندلع في أكثر من مدينة ليبية، من طرابلس إلى الزاوية، ومن الجنوب إلى بنغازي، دون وجود تفسير واضح أو موقف حازم من السلطات المعنية. تتكرر الجملة نفسها في البيانات الرسمية: “مجموعات خارجة عن القانون”، بينما لا أحد يوضح كيف خرجت، ومن سلّحها، ولماذا بقيت قادرة على الحركة والتمدد بهذا الشكل؟ المواطن يتلقى الأخبار، يشاهد أعمدة الدخان، ويستمع إلى أصوات الرصاص، دون أن يفهم أسباب الصراع، أو الجهة التي يفترض أن تحميه.
وفي ظل هذا المشهد المضطرب، تتواصل معاناة المواطنين مع ضعف الخدمات الأساسية، وسط تصاعد الشكاوى من الفساد وسوء الإدارة. الطرقات المتهالكة، والمستشفيات المزدحمة، والمدارس المتهالكة، والصيدليات التي تفتقر إلى الأدوية، كلها مؤشرات على عجز الدولة عن أداء واجباتها الأساسية، رغم الميزانيات المليارية التي تُعلن سنويًا. الاتهامات متبادلة، والجهات الرقابية صامتة أو عاجزة، والمساءلة غائبة تمامًا.
الإعلام الرسمي من جهته، لم يكن على قدر المسؤولية، حيث غابت التغطيات المهنية والتوضيحات الشفافة، في مقابل انتشار واسع للمعلومات المضللة على مواقع التواصل الاجتماعي. بينما يستمر الضغط على الصحفيين المستقلين، وتضيق مساحات التعبير الحر، مما جعل المواطن بلا مصدر موثوق، وبلا منصة تعكس صوته أو توصل معاناته.
تحت هذا الركام من الأزمات، تزداد وتيرة هجرة الشباب الليبي، سواء بشكل شرعي أو غير شرعي. أعداد متزايدة من الكفاءات والعقول غادرت البلاد، بعد أن فقدت الأمل في الإصلاح أو الاستقرار. لم يعد السؤال لدى كثيرين: “كيف نبني الوطن؟”، بل “كيف نغادره؟”.
ويبقى السؤال الكبير معلّقًا في ذهن كل ليبي: من المسؤول؟ من يقف خلف هذا الانهيار؟ من يدير المشهد ومن يعبث به؟ وإذا كانت الأطراف السياسية تتقاذف التهم وتتنصل من المسؤولية، فإن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها هي أن الجميع مسؤول. من يملك القرار ومن يعيقه، من يصدر التعليمات ومن ينفذها، من يصمت ومن يبرر، كلّهم شركاء في ما وصلت إليه البلاد من تدهور وانسداد.
ليبيا اليوم لا تحتاج إلى مزيد من التصريحات، بل إلى مساءلة حقيقية، ومصارحة وطنية، ومشروع إنقاذ يعيد للدولة هيبتها، ويضع حدًا لحالة التدهور المستمرة. المواطن لم يعد يحتمل المزيد من الانتظار، ولا مزيدًا من الوعود، فالفاتورة يدفعها وحده كل يوم.