
مهاجر نيوز-
تم إنقاذهم وسط الصحراء الأسبوع الماضي. وذلك بعد أن تعطلت سيارة تقل مهاجرين سودانيين. هنا تبدأ رحلة مأساوية تجسد معاناة العطش والجوع والانتظار القاتل، دفعت البعض إلى اتخاذ إجراءات يائسة مثل شرب بولهم، هربًا من موت محقق. هذه ليست سوى صفحة من قصص المعاناة التي ترويها طرق الكفرة الخطيرة.
في وسط بحر من الرمال والصمت، حيث تنعدم الحياة وتتلاشى الإشارات، توقفت سيارة تقل مهاجرين سودانيين بعدما تعطل محركها. لا طعام ولا ماء ولا أفق للنجاة. بقيت الأجساد تنتظر ربما لصدفة عابرة أو يد إنقاذ تمتد من بعيد لكن ما جاء في النهاية كان فرق الطوارئ، التي عثرت عليهم وقد فارقوا الحياة جوعًا وعطشًا وتعبًا، بعد أن أبلغ أحد المواطنين الليبيين عن وجودهم.
تشكل هذه المعاناة فصلًا جديدًا في رحلة المهاجرين السودانيين في ليبيا. منذ اندلاع الحرب في السودان، هرب آلاف الأشخاص من القتال والدمار بحثًا عن ملاذ آمن. لكن الكثير منهم توقفوا في ليبيا، التي تعيش حالة من الفوضى ولا توفر لهم الحماية، بل يواجهون فيها مخاطر الخوف والتعب، وأحيانًا الموت.
تزداد الأوضاع سوءًا بسبب جشع بعض سائقي السيارات الذين يتعاونون مع المهربين. فهم يحشون العربات بعدد يفوق طاقتها بكثير، أحيانًا يصل إلى ثلاثة أضعاف، مما يجعل الرحلة محفوفة بالمخاطر ويعرض حياة المهاجرين لخطر داهم
تعطل السيارة في الصحراء
قبل نحو أسبوع، تكرر مشهد موت مهاجرين سودانيين في وسط الصحراء حسبما أكدت السلطات الليبية. وقالت إنها عثرت على جثث سبعة مهاجرين سودانيين في عمق الصحراء جنوب شرقي البلاد، بعد أن تعطلت سيارتهم وظلوا عالقين لأيام من دون طعام أو ماء في ظروف مناخية قاسية أودت بحياتهم.
وفي تصريح خاص لموقع “مهاجر نيوز” أكد مدير خدمات الإسعاف والطوارئ في مدينة الكفرة، إبراهيم بلحسن أن السيارة كانت تقل 34 مهاجرًا سودانيًا دخلوا ليبيا بطريقة غير نظامية عبر منطقة قرب الحدود بين السودان وتشاد، تبعد حوالي 360 كيلومترًا داخل الصحراء، عبر طرق صحراوية نائية تُستخدم كثيرًا من قبل شبكات التهريب.
وأضاف بلحسن أن الركاب علقوا وسط الكثبان الرملية لمدة 11 يومًا بعد تعطل المركبة، دون أن يتمكنوا من الوصول إلى أي مساعدة أو إمدادات. وقال: “أنه تلقّينا بلاغًا من أحد الإخوة الليبيين، بعدما عثر عليهم صدفة وتواصل معنا عبر هاتف الثريا “جهاز يعمل علي ربط الاتصال بالأقمار الصناعية” وعلى الفور، نسّقنا مع الجهات المختصة، وتوجّهنا إلى الموقع كفريق متكامل لمباشرة المهمة”.
وأوضح بلحسن أن فرق الإنقاذ عثر على 22 من أفراد المجموعة على قيد الحياة، بينهم 10 نساء وأطفال أحدهم رضيع عمره أربعة أشهر. وقد نُقل الناجون إلى مدينة الكفرة لتلقي الإسعافات والرعاية الطبية. ولا يزال خمسة أشخاص في عداد المفقودين، وسط تضاؤل الآمال في العثور عليهم أحياء، بسبب قساوة البيئة الصحراوية واستحالة النجاة سيرًا على الأقدام في تلك المناطق
الموت البطيء
كشف بلحسن أن سبب وفاة هؤلاء الأشخاص كان العطش الشديد. وأضاف أنهم انتشلوا الجثث بمرافقة النيابة العامة، وأعادوها إلى الكفرة حيث تم استخراج شهادات الوفاة ودفنهم بحضور أقاربهم وأفراد الجالية السودانية هناك. أما الناجون، فقد تم إيواؤهم وتقديم الإسعافات والعلاج اللازم لهم. ورغم طول المسافة، تمكنوا في النهاية من الوصول إليهم.
وقدّرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) أن أكثر من 313,000 لاجئ سوداني دخلوا الأراضي الليبية منذ اندلاع النزاع في السودان في أبريل 2023، من بينهم 50,542 لاجئًا تم تسجيلهم بعد اندلاع الأزمة، ليرتفع بذلك إجمالي عدد المسجلين لدى المفوضية في مركزها بالعاصمة طرابلس إلى 70,394 شخصًا
قالت أم انتصار، زوجة أحد الناجين من الحادث، في حديثها لموقع “مهاجر نيوز” إنها وصلت إلى ليبيا قبل زوجها بشهر، قادمة من مدينة أم درمان في السودان. وأضافت: “هربنا من الأوضاع الصعبة في أم درمان وخوفًا من انتهاكات قوات الدعم السريع، خرجت مع أقاربنا، بينما بقي زوجي في المنزل. هروبنا سببه هو الخوف على بناتنا ورغبتنا الملحة في متابعة تعليمهن.”
بعد شهر قرر زوج أم انتصار اللحاق بها. فتواصل مع مهربين في السودان. رحلته لم تكن سهلة أبدا، حسبما تصف أم انتصار. إذا اضطر لتغيير العربات التي تنقله إلى ليبيا عدة مرات وهو ما اضطره لدفع مبلغ مرتفع يصل إلى نحو 500 دولار. وفي المحاولة الأخيرة للوصول إلى كفرة تعطلت العربة وسط الصحراء حسبما تروي أم انتصار.
تؤكد أم انتصار ان رحلة زوجها لم تكن سهلة فهي عاشت ما تعرض له زوجها في رحلتها من أم درمان إلى الكفرة وتصف مأساة رحلتها بالقول “كانت الرحلة صعبة مثل رحلة زوجي، وكلفتنا التذكرة أكثر من 400 جنيه سوداني. كانت العربة مكتظة جدًا، واستغرقت الرحلة حوالي خمسة أيام حتى وصلنا إلى الكفرة.”
عطش ومعاناة في قلب الصحراء الليبية
قالت أم انتصار عن رحلتها إلى الكفرة هي وأطفالها الأربعة “منذ اليوم الأول، بدأ نصيب الماء يقل تدريجيًا حتى وصلنا إلى نصف غطاء زجاجة لكل شخص طوال اليوم. كثير من الأيام كنت أبقى بدون ماء وأعطي ما لديّ لأطفالي.”
بعد زيارتها لزوجها في المستشفى، روّت أم انتصار تفاصيل المعاناة التي عاشها زوجها برفقة بعض اللاجئين الآخرين بعد تعطل السيارة، حيث كان نقص المياه شديدًا، خصوصًا للأطفال الرضع الذين عانوا من عطش شديد. وأوضحت أن إحدى الأمهات لطفل عمره عام، كانت تأخذ نصيبها بحذر شديد؛ تضع الماء في فمها خوفاً من هدرها للمياه فتضع الماء في فمها أولاً ثم تعطيه لطفلها ببطء، محاولة الحفاظ على كل قطرة.
وأشارت أم انتصار إلى أن بعضهم اضطر إلى شرب بوله لتخفيف العطش حسبما ما روى لها زوجها الذي يقيم في المشفى في مدينة كفرة. لكن مع مرور الوقت جفت هذه المحاولات ولم يبق ما يروي ظمأهم. كان بحوزتهم بعض المعكرونة فقط، لكن قسوة حرارة الصحراء وقلة الماء أودت بحياتهم. وقالت “أنه في البداية تم دفن جثتين من المتوفين، لكن مع مرور الوقت تعذر دفن الباقين، فظلوا بجانب الجثث في نفس المكان”.
وفي السياق ذاته، أفادت السلطات المحلية في مدينة الكفرة أنها أصدرت حتى مارس 2025 أكثر من 164,500 شهادة صحية، بينما تشير التقديرات إلى دخول نحو 245,000 سوداني إلى ليبيا عبر الكفرة وحدها، ما يجعلها من أبرز نقاط العبور للاجئين القادمين من السودان.
كوارث إنسانية تتكرر في صحراء ليبيا
أكد إبراهيم بلحسن أن الحوادث المأساوية تتكرر باستمرار في الصحراء الليبية، مثل ضياع وانقلاب السيارات وحوادث السير الخطيرة. قال: “في الحادث الأخير فقط، قدمنا الإسعاف لأكثر من سبعين شخصًا يعانون من كسور وإصابات خطيرة تحتاج إلى رعاية خاصة.” وأضاف أن الجهاز يواجه ضغوطًا كبيرة بسبب كثرة الحوادث، في ظل إمكانيات محدودة، خاصة مع اتساع المساحة التي يغطيها.
وفي نفس السياق، قالت أم انتصار: “لو كنا نعرف حجم المعاناة في الطريق، ما كنا سافرنا. أنصح الجميع بتجنب السفر في الصيف. هربنا من الموت بين أهلنا في الحرب، لكن وجدنا الموت في الصحراء، ولم نجد حتى من يدفننا لو كنا قد متنا.”