فِي وَطَنْهَا عِينِي نِبِي انْعَزّيهَا

أحْسَبْ حسَابْ الْيُومْ بَعَدَه غُدْوَة ولَا يَاسْ مِنْ رَحْمَةْ اللِّي نَاشِيهَا
* كتب/ عبدالوهاب الحداد،
في زمنٍ استحكم فيه الحديد والنار، حيث الغزاة يعصفون بسواحل الوطن كما الأعاصير، وقف مجاهدان شاعران من بلادي يتناوبان المقاومة، مرةً بالبندقية، وأخرى بالكلمة. كان العليان “قليصة” و”بن حسن”، رفيقا درب وجهاد، قاتلا جنبًا إلى جنب منذ بدايات أكتوبر من عام 1911، حين زأرت البنادق في وجه الاحتلال الإيطالي، وهاجت القصائد من عمق الوجدان.
وبعد سنوات من الجهاد انكسر الحلم الوطني منتصف العشرينيات، وساد الطليان غرب البلاد ثم شرقها وجنوبها، وسُفك دم الأبطال، وسكنت البنادق، افترق الرفيقان، فراق السيوف عن أغمادها.
يعَوَّض عَلِيكْ الْمُولَى
ليشْ البَكَا يَا عِينْ يَا مَهَبُولَة
دِيمَا تْزَازِي بَايْتة مَشْغُولَة
بْكَاكْ جَارْ وَاجَدْ كَبْدتِي شَاويهَا
مضى “قليصة” شرقًا، واستقرّ به المقام في حمّام مريوط بالإسكندرية، فيما ذاق “بن حسن” مرارة الأسر في زوارة، قبل أن ينجو ويمضي نحو الجنوب التونسي، متنقلاً بين المظيلة والرديف.
كانت سنوات الغربة تنهش الأرواح بصمتٍ موجع، حتى اشتد الحنين بـ “قليصة”، فكتب لصديقه “بن حسن” رسالة باللغة التي يحبانها، الشعر، رسالة طارت من ساحل مصر إلى صحراء تونس، ملأها دموعًا وأنينًا، يشكو الزمان، ويواسي عينه التي لم تكفّ عن البكاء على وطنٍ كان عزيزًا مهابًا، وأضحى ذليلًا مستباحًا:
لِي عَينْ دِيمَا دَمْعَهَا عَامِيهَا |
عَلَى بْلاَدْهَا جَارْ الزَمَانْ عَلِيهَا | |
جَارْ بْغِيظَه | ومِنْ جُورْتَه تَمَّتْ تمِيدْ مَريضَة | |
اللِّي قَبَلْ ضَاري عزْ جَا بْنَقِيضَه | اطْفِي نُورْهَا مَا عَادْ منْ يَطْريهَا | |
ليَّامْ مَا لِيهنْ تْجِي تِعْريضَه | فِي وَطَنْهَا عِينِي نِبِي انْعَزّيهَا | |
جَا مَتْقُاوي | وجَايرْ عَليهَا جُورْ مَاهُو مَاوي | |
منْ جُوْرتَه تَمَّتْ مْغِيرْ تْصَاوِي | نَزَلْ حَمَلْهَا عَ الْقَلبْ خَلَّفْ فِيهَا | |
اللِّي قَبَلْ كَانَتْ فِـ لوْطَانْ شَهَاوِي |
تَمّتْ ذِلِيلَة مَا عَرَبْ تِحْمِيهَا |
قصيدة طويلة كأنها تنهيدة عمر، سرد فيها كيف خانته الأيام، وكيف غرز فيه الوجع رمحه، وكيف استعرت نيران الحنين به كلما جاء للتناسي:
جَارْ تَقَوَّى |
ودَاهَا تَمَازَى فِي كِنِينِي جوَّا | |
دَهَسْهَنْ خَلَّاني قِلِيلْ مْروَّة | طَعَنْ طَعَنْ الرَمَحْ فِي جُوجِيهَا | |
تَمّيتْ مَا نَسْوَاشْ خَردَة تَوَّا | لَيَّامْ خَوَّانَة لْنَا تَارِيهَا | |
جَارْ بْكَاهَا | وخَايفْ عَلِيهَا مَ العَمَى نَلْقَاهَا | |
عَلَى وَطْنهَا مَابَا يْفُض عَزَاهَا | سَاهِيتْهَا وَاجدْ نِبِي نْنَسِّيهَا | |
قَالَتْ بْلَادِي مَا عَرَبْ تَفْدَاهَا | جَميعْ السَّخَا وَالْجُودْ كُلَّه فيهَا | |
دَمْعَهَا قَطَّارِي | دِيمَا مْحَدَّرْ عَلْمُوا فِي جَارِي | |
وينْ يُخْطرَنْ لَوْهَامْ تَكْبَرْ نَارِي | جِبتْ الشَّرَابْ وجِيتْ بِنْطَفِّيهَا | |
دُورَدْ عَلَي العَقَلْ جَابْ سَهَاري | قَالْ حِيدْ نِيرَانِي نِبِي نْقَوّيهَا | |
جَابْ لِي تَفْكِيرَة | عَلَى وَطَنْ ثِلْثْ شْهُورْ بُعْدتْ سيرَه | |
وينْ قُلْت لَه يَا قَلَبْ فِيهَا خِيرَة | هَاذِي مَقَادِير اللهْ خَلّيهَا | |
قَفَزْ قَالْ لِي هَاذِي جْرُوحْ كِبِيرَة |
مَا لقِيتشْ صَاحبْ دَوَا يَبْريهَا |
وبين الأبيات، يصف حال طرابلس -الوطن- الذي سقط في قبضة الروم، ويشبّهها بناقة جرباء فقدت الطبيب المداوي، ويفيض في تصوير دموعه المنسكبة ليلًا، كطفلٍ يتيم لم يجد من يؤنس غربته:
دَمْعَهَا يَسَّيَّل |
عَلَى خْدُودهَا كِيفْ السّحَابْ يْهَيّل | |
بْطُولْ لِيلْهَا تْغَرَّدْ غَريدْ الْعَيّلْ | زَعَازِيعْ رَكْبَنْهَا اللهْ يَهْدِيهَا | |
حَكَّرتْ فيهَا كِيلْهَا مَتْكَيّلْ | إلَّا انْفَاسْ مَازَالْ تبِي تْقَضِّيهَا | |
تْسَكّبْ دِيمَا | بطُولْ لِيلْهَا تُغْرَدْ تْقُولْ يْتَيّمة | |
مَايْ مَابْيَ تَنْسَى بْلاَدْ الْقِيمَة | اللِّي عَ الْمَكَارَمْ جَدّهَا بَانيهَا | |
وَاليُومْ حَازُوهَا الرُّومْ غَنِيمَة | عَلَى الله يَا عِينِي عَوَاضكْ فيهَا | |
يعَوَّض عَلِيكْ الْمُولَى | لِيشْ البَكَا يَا عِينْ يَا مَهَبُولَة | |
دِيمَا تْزَازِي بَايْتة مَشْغُولَة | بْكَاكْ جَارْ وَاجَدْ كَبْدتِي شَاويهَا | |
بَعَدْ حُكْمنَا حَيّدْ وْجَتْهَا دُولَة | كِيفْ منْ ليَّامَه حُودْدَنْ عَدّيهَا | |
دَمْعَهَا شَتْوَالِي | عَلَى وَطْنهَا هَـ اللّي عَزيزْ وْغَالي | |
ليَّامنْ مَشَاهنْ مَا مَشَاهنْ وَالِي | غِيرْ الْقَمَرْ مَارِيتْ لِيهْ شَبيهَه | |
وينْ دُوْردَنْ تَمْ الْبِيَاضْ اكمَالِي |
بَعَدْ صَارْ (مَسْليني) اللِّى وَالِيهَا |
ورغم الوجع، فإن “قليصة” لم يكن يبكي الغربة في ذاتها، بل كان يبكي وطنًا صار فيه حتى الفأر يموت جوعًا، وطنًا نحل وهزل حتى غابت عنه كل مقومات الحياة:
مَا تْهمْنيشْ الْغُربَة | ولَاهَمْنِّي خَشْ السِّريرْ ودَرْبَه | |
الَّا اطْرَابلسْ كَانتْ تْفكْ الكُرْبَة | بَدَتْ خَابْني وَالفَارْ فَاطسْ فيهَا | |
بَقَتْ هَازَلَة كِيفْ الْهَجِين الجَرْبَة | جَميعْ الْدّوَا وَالطّبْ غَابْ عَلِيهَا |
**
وصلت الرسالة الشعرية إلى “بن حسن” في صهيب التونسية، فكتب ردًا لا يقل عنها حرارةً ووجعًا، يخبره بأن ما حلّ بالوطن إنما هو قضاءٌ مكتوب منذ الأزل، قدّره الله أن يكون، وأن الملك الإيطالي كان مقدّرًا له أن يحكم، وأن يُقهر أهل الأرض وتُقسّم البلاد:
جَانَا جُوابكْ يَا (عَلِي) منْ غَادِي | ومَا فيهْ تُذكُرْ مِنْ احْوَالْ بْلاَدي | |
اللِّي فيِ مَرَادكْ يَا عَلِي فـ مَرَادِي | ومُرَادْ سِيدْنَا غَالبْ ورَادْ عَليهَا | |
مَنْ قَبَلْ يَنْشَاهَا مِنْ أوَّلْ بَادِي | رَايدْلهَا بَـ (مَنْويلْ) مَتولِّيهَا | |
رَايدْلهَا بْـ (مَنْويلْ) بِي يَجْبَرْهَا | يَمْلَكْ عَرَبْهَا وَالوَطَا يَشْبَرهَا | |
ويِظَهَّرْ الصُّوتْ يقُولْ بِنْعَمَّرهَا | لِبْلاَدْ لِي م الجَدْ وَانَا لِيهَا | |
وهُوَّ مْعَمَّلْ فَرَضْ بي دَمّرْهَا | فـ مُدَّة قِلِيلَة يَا (عَلِي) يَخْلِيهَا | |
لُو لَفَظْتَه بَلْحَقْ صَحيحْ خَبَرْهَا | عَمَارْ البَلاَدْ يْكُونْ بِمْوَاليها | |
مُوشْ نَاسْهَا مَنْفيّنْ وَمْيَسرْهَا | وهِي عَلَى السُّكَّانْ يَقسَمْ فيهَا |
ثم يوصيه بالصبر، وينثر بين السطور بصيص أمل، يخبره أن الليل مهما طال، فالفجر آتٍ، ومعه تسيل الوديان وتجود الأرض، فللأقدار مفاتيح لا يعرفها إلا من خلقها:
دَبِّرْ لـ عِينكْ يَا (عَلِي) صَبَّرْهَا | لِينْ يَبْعَثْ المُولَى فَرَجْ يَاتِيهَا | |
وامَّا بعَزِي فِـ الوَطَنْ مَا تْكَدرهَا | لَعَلّه الفَرَجْ يَاتِي مِنْ ايّنْ جِيهَة | |
لَعَلّه الْفَرَجْ يَاتِي تْطِير النّدْوَة | وِيجيكْ وَادِي جَبَدْ سِيلْ فْـ قدْوَه | |
يُدْفَرْ عَلَى لَجْلاَه زَدْوَة بْزَدْوَة | عَشْرَة اطْنَاشْن ْيُومْ وِيِصَفّيهَا | |
يْخَلِّي الحُفْرَة يَا قرينِي كِدْوَة | ويُحْفَرْ الْكِدْوَة حَفَرْ وِيِوَاطِيهَا | |
كَمِّينْ يُومْ يْجِي عَجَاجَه فــ بَدْوَه | اطَّيَّب عَقَابَه رَبْنَا يِهْدِيهَا | |
وكَمّينْ مِنْ وَاحدْ يْسَدِّي سَدْوَة | عَلِيهْ تُنْصَرَمْ مَا يَقْدَرْ يْقَانيهَا | |
أحْسَبْ حسَابْ الْيُومْ بَعَدَه غُدْوَة | ولَا يَاسْ مِنْ رَحْمَةْ اللِّي نَاشِيهَا | |
لَا يَاسْ مِنْ رَحَمَةْ اللِّي خَالَقْهَا | ولَا تْضُرْ عِينَكْ بِالعَزِي تشَرّقْهَا |
وفي ختام رده، يرسم “بن حسن” صورة المستقبل، حيث تنجلي الغمّة، وتسطع الشمس من جديد، ويتلألأ القمر بنجومه، وتعود الوجوه التي فرقتها الغربة إلى الديار، تُصلّي شكرًا، وتبكي فرحًا:
وتَظْهَرْ الشّمسْ تْبَانْ مِنْ مَزْرَقَهَا | وْتَزْهَى الْقَمَرْ وَنْجُومهَا تَحَضِيها | |
وتَرْجَعْ ونَاسكْ يَا (عَلِي) بْروَقْهَا | وتَحْمَدْ الله جْهَارْ مَا تِخْفيهَا | |
سُبْحَانْ رَبَّنا لَمّهَا وْفَرَّقْهَا | ولَمْ شَمْلهَا ثَانِي بنَاسْ نبِيهَة | |
وهَاذَاكْ وِينْ تَعَرفْ النَّاسْ رَفَقْهَا | مِنْ وَجَه خَايبْ سِيمْتَه خَاطِيهَا |
لكن القدر، كما كان قاسيًا في التفرقة، كان أكثر قسوة في النهاية، فقد رحل المجاهد “علي قليصة” عن الدنيا في غربته بالإسكندرية سنة 1942، قبل أن يرى نور الحرية، فيما أمهل الزمنُ رفيقه “بن حسن” ليعود إلى ليبيا، بعد نفيٍ دام عشرين عامًا، ويشهد دحر الإيطاليين واستقلال البلاد، ثم يرحل هو الآخر إلى دار البقاء سنة 1953، تاركًا خلفه قصائد من وجع، وكلمات تصلح أن تكون استشهادا لحاضر الأيام ومستقبلها.