
العربي الجديد-
بعد ثورة 17 فبراير 2011، شهدت ليبيا تحولات جذرية في مشهدها السياسي والاقتصادي، حيث كان الطموح كبيرًا في بناء دولة مستقرة ومتطورة بعد عقود من الحروب والعقوبات. إلا أن الواقع سرعان ما كشف عن غياب الاستقرار واشتداد الصراعات السياسية، مما أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية. ورغم المحاولات المستمرة للإصلاح، لا تزال الرؤية الاقتصادية ضبابية، مما يفاقم التحديات التي تواجه البلاد.
وعلى الرغم من التحسن الملحوظ في إنتاج النفط، الذي بلغ هذا العام مستويات قياسية عند 1.4 مليون برميل يوميًّا، فإن هذا التقدم لم يكن كافيًا لانتشال الاقتصاد الليبي من أزماته. فالنفط، الذي يُعَدّ المصدر الأساسي للعملة الصعبة في البلاد، لا يزال يعاني من تأثير الصراعات المستمرة والإغلاقات المتكررة للحقول والموانئ. إضافةً إلى ذلك، تراجع الدينار الليبي وفرضت ضريبة بنسبة 15% على مبيعات النقد الأجنبي، مما عمّق الأزمة الاقتصادية.
ويُعتبر القطاع النفطي العمود الفقري للاقتصاد الليبي، فهو يشكل نحو 95% من إيرادات الحكومة، ما يجعل أي تراجع في إنتاجه يؤثر بشكل مباشر على الموازنة العامة. ورغم المحاولات الجادة لزيادة الإنتاج النفطي، فإن القطاع يظل مهددًا بالصراعات السياسية التي تُضعف استقرار إنتاج النفط وتهدد بتوقفه بشكل متكرر.
ويرى المحلل طارق الصرماني أن أحد أبرز العوامل المعرقلة للنمو الاقتصادي في ليبيا هو الانقسام السياسي الحاد بين الحكومتين المتنافستين في طرابلس والشرق. وقال إن هذا الانقسام يعوق تنفيذ سياسات اقتصادية موحدة، ويزيد من تعقيد إدارة الموارد الاقتصادية في ليبيا بالشكل الأمثل. كما أن الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية، خاصة في قطاع النفط، يُعَدّ من أبرز التحديات التي تعوق تحقيق التنمية المستدامة.
وأضاف الصرماني في حديثه لـ”العربي الجديد”: “الانقسام السياسي جعل من الصعب تنفيذ السياسات الاقتصادية المتكاملة. هذا الانقسام يعرقل وضع رؤية اقتصادية موحدة، حيث تتصاعد الخلافات حول كيفية إدارة الموارد الاقتصادية، مما يزيد من الغموض بشأن كيفية استثمار الموارد الطبيعية والبشرية”.
وأشار إلى أن “الفساد المستشري في المؤسسات الحكومية وقطاع النفط، على وجه الخصوص، يُعَدّ من العوامل الرئيسية التي تعرقل النمو الاقتصادي في ليبيا. الحكومة الليبية لا تزال تواجه صعوبة في تنفيذ إصلاحات جذرية للحد من الفساد وضمان الشفافية في إدارة الموارد المالية”.
من جهته، عبّر أستاذ الاقتصاد في الجامعات الليبية، عادل المقرحي، عن قلقه إزاء غياب رؤية اقتصادية واضحة واستمرار الصراع على السلطة، مما يجعل المستقبل الاقتصادي لليبيا غامضًا.
وأوضح لـ”العربي الجديد” أن ليبيا تعاني من معدلات تضخم مرتفعة وزيادة مستمرة في أسعار السلع الأساسية. كما تعرضت العملة الليبية لانخفاض مستمر في قيمتها، مما أثر على القدرة الشرائية للمواطنين وأدى إلى تفشي الفقر. ورغم محاولات البنك المركزي لضبط السياسة النقدية، فإن تزايد أزمات السيولة ونقص الثقة في المؤسسات المالية الليبية يعوق أي تقدم في معالجة هذه الأزمة.
من جهته، اعتبر المحلل المالي محمود سالم أن المشكلة تكمن في انخفاض قيمة الدينار الليبي واستمرار فرض ضريبة على مبيعات النقد الأجنبي بنسبة 15% على سعر الصرف، فضلًا عن تزايد الدين العام المحلي الذي وصل إلى مستويات قياسية بلغت 153 مليار دينار بسعر صرف 4.9 دنانير للدولار. وأضاف، في حديثه لـ”العربي الجديد”: “الوضع المالي للبلاد ليس على ما يرام، خاصة مع الإنفاق العام غير المنضبط وعدم وجود رؤية اقتصادية موحدة”.
وأكد أن هناك غموضًا يحيط بالوضع الاقتصادي، مشيرًا إلى أن وزارة المالية اقترضت 7 مليارات دينار خلال العام الماضي لتسديد الرواتب، فضلًا عن إعلان المصرف المركزي منح الرواتب كقروض حسنة في ظل أزمة السيولة النقدية.
ورغم هذه التحديات، تظل ليبيا واحدة من أكبر الدول الأفريقية من حيث احتياطيات النفط، حيث تمثل صادرات النفط والغاز أكثر من 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وتساهم في توفير النقد الأجنبي. لكن إنتاج النفط لم يعد يصل إلى ذروته كما كان في السبعينيات، حيث تراجعت صادرات النفط إلى 1.19 مليون برميل في عام 2023 مقارنةً بـ3.4 ملايين برميل يوميًّا في عام 1970.
وبينما أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط عن خطط لرفع إنتاجها إلى 1.4 مليون برميل يوميًّا بحلول نهاية العام الجاري، لا تزال التحديات السياسية والاقتصادية قائمة، حيث تتنافس الفصائل الغربية والشرقية على السلطة، ويستمر غموض مستقبل الاقتصاد الليبي.
وأكد تقرير للبنك الدولي أن قطاع النفط والغاز سيظل العمود الفقري للاقتصاد الليبي، متوقعًا انتعاش إنتاج النفط إلى 1.2 مليون برميل يوميًّا في عام 2025 و1.3 مليون برميل يوميًّا في عام 2026. كما سيؤدي هذا الانتعاش إلى تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 9.6% في عام 2025 و8.4% في عام 2026. أما الناتج المحلي غير النفطي، فمن المتوقع أن يسجل نموًّا بنسبة 1.8% في عام 2024، ليصل إلى متوسط 9% خلال الفترة من 2025-2026.