الناس-
يقضي الصحفي الليبي “أيمن الساحلي” إجازة قصيرة مع عائلته بين مصراتة والعاصمة طرابلس بمثابة (استراحة محارب) بعد تغطيته لسقوط النظام السوري من وسط دمشق. وتغطيته للعدوان الإسرائيلي على بيروت من ضاحيتها الجنوبية.
الساحلي وصل إلى دمشق بعد سقوط النظام بثلاثة أيام. ليكون أول صحفي ليبي يصل إلى هناك، وربما الصحفي الوحيد حتى كتابة هذا التقرير.
وبذا يسجل تجربة جديدة له وفريدة، فمنذ تغطيته لأحداث الثورة الليبية في 2011 لم يضع الكاميرا جانبا، بل ازداد شفعه وطور نفسه، ومضى في مهنة المتاعب لأقصى مدى، وعرّض حياته للخطر في أكثر من مرة، وما إن عاد من تغطية العدوان الصهيوني على لبنان حتى تطورت الأحداث في سوريا بالشكل الذي شاهدناه على الشاشات وانتهت بسقوط الأسد ليكون “الساحلي” في الموعد..
سعى للدخول لغزة للتغطية من عين المكان لكن..
الناس التقت بالساحلي ليحكي عن تجربته كمراسل حربي وكان لها معه حديث.. ابتداء بالثورة السورية..
عود على بدء
“تغطيتي للثورة السورية بدأت في 2013 وصلت إلى هناك واشتغلت مراسلا حربيا لوكالة رويترز، لكن تعرضت للإصابة ونجوت بأعجوبة، فقد أصابني قناص بعيار ناري، وبعد إسعافي استهدفت سيارة الإسعاف، ولولا أن اختبأت (السيارة) في نفق لتمكن منها الطيران.
وها قد عدت اليوم لاستكمال تغطيتي”..
وصلت إلى سوريا يوم 12 ديسمبر. وكان وصولا متعبا، فقد سافرت لأكثر من دولة قبل الوصول.
لم ألتق بأي صحفي من ليبيا هناك.
كان مقصدي الأول الساحة الأموية بدمشق، فغطيت الاحتفالات الشعبية بسقوط النظام، ثم شرعت في اقتناص القصص الإنسانية، ومن بين القصص التي اشتغلت عليها قصص سجن “صدنايا” الذي أصبح اسمه بين الناس “المسلخ البشري”.
قلق من القادم
تحدثت إلى الناس في الشارع، الناس أهلكهم الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة،
يؤمّلون حاليا -وأكثر من شيء- تحسن الأوضاع الاقتصادية. يأملون أن تتوفر الكهرباء والمازوت والبنزين ويتحسن مستوى المعيشة.
من خلال حديثي معهم يطرحون أيضا تساؤل “ماهو القادم؟”.
نزع السلاح
“قضية نزع السلاح” من المشاريع القائمة الآن، فقد شرعت “هيئة تحرير الشام” في تنفيذ حملة لنزع السلاح، من خلال دعوة موجهة لعناصر النظام السابق لتسليم أسلحتهم وتسوية أوضاعهم، ومن ليس عليه قضايا قتل يعود لمنزله، وبناء عليه قام المائات من عناصر النظام السابق بتسليم أسلحتهم في مدن عدة”.
“الخطوة اللاحقة –يقول- قامت الهيئة بحملة مداهمات للعناصر التي لم تستجب، داهمت خلالها العديد من الأحياء والمنازل، وحصلت اشتباكات أحيانا مع فلول النظام السابق. قبضت فيها على العديد من قياداتهم، فهروب (بشار) كان مفاجئا، ولم تكن لهم خطة للهرب. فقبض على شخصيات متهمة بالمسؤولية عن مجازر”.
صدنايا
“سجن صدنايا حكاية وحده.. وكان من أبرز الفظائع التي ركز عليها الرأي العام في سوريا والعالم.
الساحلي: تغطيتي للثورة السورية بدأت في 2013 ولم تنته في 2024م. سأعود
وجدوا في السجن عقب سقوط النظام معتقلين فاقدين للذاكرة من جراء التعذيب، وآخرين فقدوا عقولهم، ومع ذلك استمروا في التحفظ عليهم في الزنازين.
الناجون من فظائع السجن حكوا عن أبشع أنواع التعذيب والتجويع التي تعرضوا لها، من بينها أن أجبروا سجينا على تناول (برازه!) فتسمم وتوفي بعد خمسة أيام.
وجدوا في “صدنايا” سراديب تحت الأرض تحتوي زنازين بمقاس مترين في مثلهما، ينزل بها ستة سجناء معا، وأغلب الوقت يجبرون على أن يكونوا عراة دون حتى ورقة التوت، في منطقة جبلية تصل فيها درجات الحرارة إلى مستويات دنيا”.
المفقودون والمضطهدون
وكان من أبرز مشاهداتي التي علقت في الذاكرة، أن التقيت أُمّا تبحث عن ابنها داخل السجن، ورأيت أمهات يجلسن طيلة اليوم بجوار نصب تذكاري وسط العاصمة على أمل سماع معلومة عن أبنائهن المفقودين.
رأيت سيدة أخرى تبحث عن أخيها، الذي كان عسكريا في جيش الأسد حاول الهرب وعدم المشاركة في الحرب، فقبض عليه وألقي في سجن صدنايا. وعسكري آخر التقيته، كان في أحد ألوية الجيش، وكان يجبر على إصلاح السيارات لأحد الضباط دون مقابل.
انطباعي أن كثيرين من عناصر الجيش كانوا يعانون، وكانوا يجبرونهم أحيانا على الإفطار في شهر رمضان، ومن يرفض الأوامر يحال إلى “صدنايا”.
انطباعات
“سوريا بلد جميل، والشعب السوري شعب طيب ومضياف وكريم، ويعاملونك بشكل خاص عندما يعرفون أنك ليبي، فترى الفرحة في عيونهم مع عبارات (حيا الله رجال ليبيا)”.
لاقيت من قال لي إن ليبيا أكثر دولة ارتاح فيها النازحون السوريون
الناس في غمرة فرحتهم بزوال نظام قمعي قهرهم وجوّعهم ودمّرهم.
أتمنى أن أعود للتغطية هناك بعد أن تكون البلاد قد استقرت وتكون بأفضل حال.
وفي الأخير سقط!
مما لفت انتباهي وأنا أدخل دمشق هو اكتظاظ مداخل المدينة بالمعسكرات، معسكر خلف معسكر دون انقطاع، تفكرت في أحوال الحكام العرب، وهم يغرقون دولهم بالسلاح دون أن تغني عنهم شيئا.. ولو اهتموا بشعوبهم وأنفقوا عليها ما ينفقونه على المعسكرات لحافظوا على بلدانهم وحتى بقائهم إن شاؤوا.
“بشار” كغيره. أنفق على المعسكرات والأسلحة وفي الأخير سقط في يوم. وترك خلفه شعبا جائعا!.. لقد رأيت أناسا يبحثون عن الأكل في مكب القمامة في الشارع.
الصحفي الحقوقي
مسيرة الصحفي أيمن الساحلي انطلقت في 2011 مع اندلاع الانتفاضة في ليبيا، كان يحمل شهادة ليسانس في الحقوق، وكان بإمكانه أن يشق طريقه بشكل آخر. لكن الزلزال الليبي غير مسار حياته بالكامل.
غطى أحداث الثورة الليبية منذ بدايتها وحتى آخر مواجهاتها في سرت، وفي 2012 غطى الكثير من قضايا الهجرة غير النظامية ومكافحتها.
كلف بعدها بتغطية أحداث الثورة في سوريا وأصيب في حلب فعاد أدراجه، حيث تكفلت الجهة التي يغطي لها بمصاريف علاجه وتعافيه، ثم انطلق في تجارب جديدة، فغطى موسم الحج ووصل إلى أماكن نسج كسوة الكعبة في 2014م.
الساحلي: ما تعيشه سوريا الآن عاشته ليبيا في 2012. الناس فرحون لكن قلقون من المستقبل
من الأحداث التي غطاها بعد ذلك كمراسل حربي، فجر ليبيا، البنيان المرصوص، بركان الغضب، وكانت تغطيته المتميزة لجريمة المقابر الجماعية في ترهونة زادا لأكثر من مائة قناة ووسيلة إعلامية حول العالم.
وغطى كذلك “أزمة كورونا” التي لم تكن أقل شراسة من الحرب، فدخل مراكز العزل بكاميرته، ومراكز أخذ العينات ومراكز التحليل، “ولله الحمد لم أتعرض للإصابة”- يقول أيمن.
كما غطى كارثة إعصار درنة المأساوية في 2023م.
من بيروت إلى غزة؟
وعن تجربته مؤخرا في لبنان يقول: “قمت بتغطية القصف على الضاحية الجنوبية ببيروت، كان القصف شديدا وعنيفا، كانت الصواريخ تسوي المباني ذات الطوابق بالأرض، كانت تغطية صعبة وخطرة، لقد كان أزيز الطائرات فوق ليل نهار، كانت تجربة مختلفة حقا”.
ما يحز في نفس الصحفي المغامر أنه عجز عن الدخول إلى غزة لتغطية المعاناة الإنسانية هناك يقول: “نعم سعيت لدخول غزة بعد 7 أكتوبر. لكن لم أجد وسيلة للدخولز كانت الحدود مغلقة بضمير، وسدت الطريق في وجهي تماما..