العربي الجديد-
أدى التغير المناخي إلى عواقب وخيمة في تشاد، إذ هطلت أمطار غزيرة وغير معتادة على شمال البلاد وخلقت سيولاً وفيضانات حملت ألغاماً وذخائر غير منفجرة فرنسية وليبية ونقلتها إلى مناطق جديدة لتنفجر في الأهالي وماشيتهم.
– بعد انحسار الفيضانات من ضواحي مدينة برادي عاصمة إقليم تيبستي شمالي تشاد، والتي غمرتها سيول غير مسبوقة استمرت حتى الثامن عشر من أغسطس 2024، فوجئ السكان بظهور ألغام حملتها المياه من المناطق الملوثة بها في الإقليم، ما أسفر عن انفجارين، وقع الأول على طريق يبي سوما Yebi soumma في تيبستي، إذ انفجر لغم بسيارة وتوفى أربعة أشخاص وأصيب ثلاثة آخرون، ثم انفجر لغم ثان بالقرب من المكان الأول، وقتل رجلاً وجمله في بداية أكتوبر/تشرين الماضي، كما يقول الناشط والمتطوع في جمعية دعم ضحايا الفيضانات (منظمة أهلية)، محمد سوقي.
وتملأ الألغام والذخائر غير المنفجرة تشاد بسبب مشاركة القوات الفرنسية في المواجهات العسكرية التي خاضها الجيش التشادي ضد جبهة التحرير الوطني – فرولينا (حركة معارضة كانت تتخذ من جبال تيبستي قاعدة لعملياتها العسكرية)، خلال المرحلة الأولى من الحرب الأهلية التشادية، ما بين عامي 1966 و1976، وبعدها جاء العدد الأكبر بسبب الصراع بين تشاد وليبيا في سبعينيات القرن الماضي، ما ترك سكان الشمال التشادي يعانون من الألغام المضادة للدروع والأفراد، وفي عام 1986 ساندت القوات الفرنسية الجيش التشادي بهدف تدمير مهبط الطائرات الذي بناه الليبيون في منطقة وادي الدوم بإقليم إنيدي ENNEDI شمال شرقي البلاد، واليوم تعتبر هذه المنطقة من بين الأكثر كثافة وتلوثاً بالألغام على مستوى العالم.
ولا يقتصر الأمر على معاناة سكان وادي الدوم المستمرة منذ أكثر من 30 عاماً، إذ وصل الخطر إلى المهاجرين المارين بالمنطقة التي تعد نقطة عبور من جنوب الصحراء الكبرى باتجاه الدول الأوروبية مروراً بليبيا، وهؤلاء يجدون أنفسهم في مواجهة مع خطر الألغام والمتفجرات، بحسب بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في تشاد.
كيف تزيد الفيضانات من المناطق الملوثة بالألغام؟
دربت القوات الفرنسية جنوداً تشاديين على زراعة الألغام في إقليم تيبستي ومنطقة قريدا بإقليم سيلا جنوب شرقي البلاد لمنع تقدم قوات الحركة من أجل الديمقراطية والعدالة MDJT (تشادية أسسها يوسف تقويمي في عام 1998) في حربها ضد نظام إدريس ديبي (1990 – 2021)، وفق ما يؤكده لـ”العربي الجديد” أحمد شاها، العضو السابق في الحركة، وضاعفت الحرب الأهلية بين قوات ديبي والتجمع من أجل الديمقراطية والحرية RDL (جماعة تشادية متمردة أسسها محمد نور تاما في عام 2005) من معاناة الناس بسبب الألغام، يقول سوقي.
أدى ما سبق إلى أن تتشر “مخلفات الحروب في 666 منطقة تشادية”، كما يؤكد آدم أبكر قري، المسؤول الإعلامي بالمركز الوطني لإزالة الألغام (حكومي)، قائلاً لـ”العربي الجديد” إن 90% من المناطق الملوثة في تشاد تتركز في الأقاليم الشمالية، وهي تيبستي وإنيدي وبوركو، والتي تبلغ مساحتها 373 ألف كيلومتر مربع.
وما زاد الخطر وحوله إلى كارثة متنقلة، هطول الأمطار الغزيرة وتحولها إلى فيضانات تدفقت من سلسلة تيبستي الجبلية عبر مرتفعات إيمي كوسي وتارسو توسيدي في أقصى شمال تشاد، ومنها تحركت ألغام وذخائر غير منفجرة إلى مدينة برادي والطريق الرابط بينها وبين مدينة فايا لارجو في إقليم بوركو وبلدة زوار بمقاطعة تيبستي الغربية وضواحي مدينتي يبي بو Yebibou، وور wour، كما رصد المتطوعون ومن بينهم سوقي، والذي قال إن الكارثة مستمرة والحكومة لم تطهر تلك المناطق بعد.
وهذه مخاطر إضافية تعانيها المجتمعات المحلية، خاصة بعد تضرر 1.5 مليون مواطن ووفاة 341 شخصاً، إضافة إلى نفوق 66 ألف رأس من الماشية وتدمير 164 ألف منزل و259 ألف هكتار من الحقول، جراء الفيضانات التي استمرت منذ يوليو/تمو وحتى سبتمبر الماضي، بحسب بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، والذي حذر من أن الفيضانات أصبحت أكثر تواتراً في تشاد خلال السنوات الأخيرة.
أمطار غزيرة في الصحراء
برز أثر التغير المناخي منذ عام 2014 إذ تزايد حجم الفيضانات في 23 مقاطعة تشادية، كما يقول محمد بركاي نكور، الناطق باسم الوكالة الوطنية للأرصاد الجوية الحكومية، مؤكداً لـ”العربي الجديد” أن ارتفاع درجة الحرارة يؤدي إلى تغيرات أخرى مثل ارتفاع مستوى سطح البحر وكمية ونمط المطر، وهذه التغيرات تزيد من تكرار وكثافة حوادث الطقس الطبيعية مثل الفيضانات التي وقعت في أماكن صحراوية بالشمال عادة لا تهطل فيها الكثير من الأمطار.
ومن بين الضحايا، يوسف أوبي، الذي بترت ساقه اليسرى بسبب لغم مضاد للدروع نقلته السيول من إقليم بروكو إلى مدينة زوار في عام 2016، مضيفاً: “انفجر اللغم بنا عندما كنا عائدين من مدينة فايا لارجو بسيارة ابن عمي الذي توفي بالحادثة”، ويتابع قائلاً لـ”العربي الجديد”:” لم تكن تلك المنطقة ضمن الأراضي الملوثة بالألغام نتيجة الحروب، لذا لم نتخذ أي احتياطات”.
وفي العام ذاته أصيب، أحمد كلي بجراح في مناطق متفرقة من جسده جراء انفجار لغم في ضواحي مدينة برداي، حسب ما يقول، مضيفاً: “حمداً لله اللغم الذي انفجر بالسيارة كان مضاداً للأفراد ولو كان مضاداً للدروع لكنا في عداد الموتى، لم تعد مشكلتنا مع الألغام فقط، بل مع فيضانات تحمل الموت بداخلها إما عبر الماء الهادر أو بالألغام التي تحملها من مكان غير آمن لتضعها بين السكان”.
تنصل من المسؤولية
تبلغ المساحة الملوثة بالألغام في خمسة أقاليم تشادية 104 ملايين و542 ألف متر مربع، بحسب بيانات المؤتمر الاستعراضي الثالث للدول الأطراف في اتفاقية حظر واستعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدميرها، والصادرة في يونيو 2014، وخلفت تلك الألغام والذخائر غير المنفجرة 3157 ضحية خلال الفترة من 2012 حتى إبريل 2021، بحسب بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
مسؤولية زراعة أغلب المناطق الشمالية بالألغام، يحملها الجنرال إبراهيم جبريل إبراهيم المنسق العام للمفوضية الوطنية العليا لإزالة الألغام التابعة لوزارة التخطيط، لليبيا، قائلاً لـ”العربي الجديد”: “زرع الجيش الليبي الكثير من الألغام وترك الذخائر غير المنفجرة، دون القيام بمسؤوليته تجاه دولتنا”، مؤكداً وجود 120 منطقة خطيرة ملوثة بالألغام المضادة للأفراد والمركبات على مساحة 77 مليوناً 694 ألف متر مربع، في إقليمي بوركو وإنيدي، وهذه كارثة تفوق قدرتنا، ومؤثرة على هدفنا بأن تكون تشاد خالية من الألغام بحلول عام 2030.
وللوقوف على ما حدث خلال المواجهات العسكرية بين تشاد وقوات ليبيا، تواصل مراسل “العربي الجديد” في ليبيا مع ضابطين ليبيين شاركا في تلك الحرب، وهما العقيد عطية حجاج والرائد عبد السلام مقرّن، وأفادا بأن القيادة الليبية استعانت بضباط روس لتدريب جنودها على زراعة الألغام في شمالي تشاد، ضمن خط الدفاع عن قاعدة وادي الدوم بعد سيطرتهم عليها، ولم تقدم على نزع تلك الألغام لدى خروجها من البلاد، بالرغم من صدور حكم عن محكمة العدل الدولية في 23 فبراير 1994، قضى بانسحاب ليبيا من تشاد وإزالة الألغام عبر تشكيل فريق مشترك من الطرفين يتكون من 40 خبيراً مع زيادة عدد أفراد الفريق إذا تطلب الأمر ذلك، على أن يبدأ العمل من 15 إبريل 1994، إلا أن الجزء المتعلق بنزع الألغام لم يطبق، كما يؤكد لـ”العربي الجديد”، الخبير المختص في الكوارث الطبيعية وأستاذ الجيولوجيا في جامعة إنجامينا الحكومية، الدكتور جيمتا راؤل.
فقدان الثقة بالحكومة
خلال زيارة وزير المالية والاقتصاد والتخطيط، حامد طاهر نقلين إلى المناطق المنكوبة بالفيضانات، سأله مواطنون عمّا ستفعله اللجنة الوطنية للوقاية من الفيضانات وإدارتها (أنشئت في أغسطس 2024) كونه يترأسها، فرد عليهم قائلاً: “نراقب الألغام المضادة للأفراد أو المضادة للدروع التي حملتها الفيضانات إلى مناطق لم تكن ملوثة بها”، وأضاف أن الحكومة على علم بما حصل واللجنة ستقوم بدورها وتقيم الوضع وتعمل على تقديم الرعاية الصحية للمتضررين، كما تقدم دعماً مادياً ومعنوياً لجميع ضحايا الفيضانات”.
وتجري المفوضية الوطنية العليا لإزالة الألغام مسح لمعرفة المناطق التي لوثتها الفيضانات بمخلفات الحرب، كما يقول الجنرال إبراهيم جبريل، مشيراً إلى أن المفوضية أرسلت في نهاية أغسطس الماضي فريقاً مدرباً لتقييم الوضع في المناطق التي ظهرت فيها الألغام بفعل السيول، ويقول: “الحكومة مسؤولة أمام الشعب. سيقوم فريق من المفوضية بجولة لنزع الألغام في الفترة القادمة”.
لكن سوقي وكلي وأوبي، يرون أن الحكومة تخلت عنهم والشعب يواجه كارثة ليس بمقدوره فعل شيء أمامها، وهو ما يؤكده الدكتور جيمتا راؤل، قائلاً: “الحكومة لم تضع بنداً واحداً في ميزانيتها لنزع الألغام وتدريب متخصصين في تطهير المناطق الملوثة منها، لأنها لا تتعامل مع المشكلة باعتبارها كارثة وطنية رغم أنها تحصد أرواح الأبرياء وتقتل ماشيتهم وتحرم البلاد من الاستفادة من مئات الكيلومترات التي لا يستطيع الناس الانتفاع بها كونها أماكن خطيرة. ولا يبدو حل في الأفق لأن الحكومة لا تملك الموارد والكادر البشري اللازمين لاتخاذ إجراءات سريعة لمواجهة الفيضانات فما بالك إذا جاءت محملة بالألغام.