الاخيرةالرئيسية

الليبيون والشاهي

* كتب/ عبدالوهاب الحداد،

لم يعد للشاهي/ الشاي ذاك الحضور لدى الليبيين كما كان في الماضي، خاصة في المدن، حيث احتلت القهوة بمقاهيها مكانه، واقتصر حضوره المكثف -أحمر وأخضر- في المناسبات، خاصة المآتم، كما تغيرت طقوس تحضيره، واختفت أداوته من (برّاد) و(طاسة) و(سفرة)، وصار يقدم في محفوظا في (ترمس) ويعبأ في أكواب كرتون أو بلاستيك.

ولازالت الذاكرة القريبة تحتفظ بمشهد (عالة) الشاهي في البيوت، حين كانت تنتصب صباح مساء مصحوبة بطقوس ليبية خاصة في تحضيره، أبرزها تلك الرغوة التي تصنع بحرفية لتحتل الربع العلوي من الكأس وتسمى (الكشكوشة)، وكذلك الكأس الزجاجي صغير الحجم الخاص بشرب الشاي وهو يدور بين المتحلقين، فسميت كل مرة بـ(الدور).

والشاي عند الليبيين يشرب عادة ثلاث مرات في الجلسة الواحدة، والمرة تسمى دورا، والدور الثالث والأخير تضاف له (الكاكاوية) أو اللوز، ولذا يقال في ضرب المثال على نهاية الأشياء (الثالثة باللوز)، أما كلمة (الدور) -كما طاسة الشاهي- استعارها أهل السُكْر، وأطلقوا على كل كأس من الخمر (دور).

**

صدّر الليبيون الشاي وطريقة وأدوات تحضيره لتونس، ولازال التونسيون يطلقون على (طاسة الشاهي الليبية) الكاس الطرابلسي، ويذهب الفرنسي “جون مانيان” في بحثه حول انعكاسات آفة الشاي بتونس من منظور شعبي إلى أن  “… تاريخه -الشاي- حديث جدا عندما جلبه المهاجرون الطرابلسيون بسبب الحرب الإيطالية التركية سنة 1911م، وقد وجدوا هذه البلاد -تونس- غريبة عن هذه العادة -عادة شرب الشاي- المتجذرة عندهم…”، والقصد أن الليبيين هم من نشر عادة شرب الشاي بين عموم الناس في تونس، وطريقة تحضيره، خاصة الأحمر منه بطبخ عشبته حتى يصير سائلها داكنا ثقيلا يسمونها (طاسة عاقدة).

**

علاقة الليبيين بالشاي لفتت نظر الرحالة الأجانب الذين زاروا ليبيا في تواريخ متعددة، فهذه الرحالة الإنجليزية “روزيتا فوربس” التي زارت شرق ليبيا وجنوبها الشرقي عام 1920م تقول: “… يعد شرب الشاي مناسبة قد تستمر من ساعة إلى ثلاث ساعات.. يملؤون نصف براد الشاي بالسكر، ربعه بالشاي، ثم يصبون الماء فوقه، ويتذوقون ذلك المشروب الحلو الثقيل حوالي ست مرات يوميا، ويظلون يصبونه من إناء إلى إناء، ويضيفون إليه ماء أو يعيدون غليه إلى أن يروق لهم مذاقه”.

وتضيف وصفا للكأس الأخير من الشاي: “… عندما يعتقد المضيف أن وقت إنهاء الحفل قد انتهى، فإنه يقوم بإضافة النعناع إلى الشاي، وهنا يقوم الضيوف بتناول الكوب الأخير المحلى بالسكر والمعطر بالنعناع في إشارة منهم إلى الرحيل”.

أما التركي “عبد القادر جامي” فقد وصف تحضير الشاي عام 1906م باشتراط مراعاة آداب خاصة عند الليبيين “فالذي يحضّر الشاي يقلد الوضع الذي يتصف به شيخ الزاوية أمام تلاميذه…”

**

وقد حُمّل الشاي كل أسباب التخلف واعتلال الصحة، فهذا الأستاذ “محمد فشيكة” في كتابه “كأنك معي في طرابلس وتونس” عام 1949م، يقول: “… أعظم آفة مباحة شرعا وقانونا، ابتلى بها الطرابلسيون رجالا ونساء، شبانا وأطفالا، ريفا وبادية وحضرا، هي الإقبال الزائد على شرب الشاي، وطريقتهم في تحضيره خالفت جميع شروطه الصحية…” مؤكدا أيضا على أضرارها الاقتصادية، فمتوسط ما ينفقه الفرد على الشاي ولوازمه يوميا، نحو ستة قروش مصرية أو ليبية بأقل تقدير!

ونقل الأستاذ فشيكة في كتابه بعض (الشتاوات) التي كان يرددها الليبيون تغزلا في الشاي، ومنها:

يَا شَاهي مَا غْلَاك عَلَيْ

   طَاسَة فيهَا الكَاكَاويْ

لسّي يَا نَار المَرعُوبْ  

 حَشيشَة حَمْرَا وسُكر طُوبْ

 

**

وعلى ذكر (الشتاوات) فقد احتل الشاي مساحة واسعة من الشعر الشعبي الليبي، وكثيرا ما تصادف قصائد دبجت في حب الشاي، فأيام الحرب العالمية الثانية ندر وجود الشاي في ليبيا بسبب الحرب، الأمر الذي سيطر على فكر الشعراء حينها، وهو ما حفظه لنا ديوان الشعر الشعبي، ومنها قصيدة الشاعر: عبد الله النفار ومطلعها:

حْنَا قبَل درْنَا وَرْد وَأنتَ علَّه    كيفْ جِيتْ للعَظَم الصَّحيحْ تْحلّه

 

ورد الشاعر: عبد الله العباسي بقصيدة مطلعها:

شرْبَه بَاهي

   يجَلّي درَاهْ الكَبَد تَبقَى زَاهِي
حشيشة حلال وما عليها ناهي  

يلذّ شرْبهَا وينْ الثّمَنْ يتعلَّى

وعلى ذات الملزومة قال الشاعر: يونس بو صفحة:

لَيشْ تقْرض فيهَا

   وَأنْتَ زْرُوق الشّمس تَشْرب فيها
وفـ القَايْلَة مَا زلْتْ متْكَفِّيها  

وْفـ العَصْر تُنْصبْهَا تْجي مَا شَا الله

 

ولشاعر معتقل العقيلة الشهير (رجب بو حويش) قصيدة نظمها عندما خفض عدد (أدوار) شرب الشاي لأقل من ثلاثة، فقال:

يا مَنْ قَبَّ الثَالثْ قُبّه

وْاذْهِبْ طبَّه

 وَاجْعنَّه قَاصرْ عَ الجبَّه

 

**

ونختم بهذه الحادثة التي وقعت بمصراتة في زمن حكومة (أحمد السويحلي) بين عامي (1920 – 1923م) فيبدو أن عادة جديدة قد طرأت على السكان، وهي شرب الشاي في وسط السوق، أو ربما شهدت تلك الفترة افتتاح محل خاص لبيع الشاي، وهو ما جعل الحكومة تصدر قرارا يمنع شرب الشاي في السوق الواقع في وسط المدينة المعروفة باسم (امّاطين). سمع الشاعر والمجاهد (محمد أبوزيتونة) بالقرار، وكان وقتها متواجدا في مدينة سرت، وفهم أن الشاي منع في عموم مدينة مصراتة، فأرسل أبياتا للشاعر والمجاهد (علي بن حسن) تقول:

كِيف يَا (عَلِي) فِكْرَةْ عَمَلْكُمْ هَذَا

   عَلَى النَّاس يَسَّقْتُوا سَبيل الْعَادَة

كِيف الدُّوَّة

 

 جَديدَة اللِّي جَدَّتْ عَليكُم تَوَّا

فِي تَرَكْ شَاهِيكُم بغِير مرُوَّة

 

 رَسْمي ظَهَر مَا تَجْمعُوا ميعَادَه

كِيف الْخَبَر كيفْ الْحَدِيثْ تَلَوَّى

 

 عَلَى أَيَّنْ سَبَبْ أَبْعَثْ لَنَا ليفَادَة

كِيف الْخَبَر لَفْظَاتَه

 

 وكِيفْ فكْرهُمْ لكْبَارْ فِي مصْرَاتَة

اللِّي حَجَّرُوا الْبَرَّاد عَنْ طَاسَاتَه  

 مَكْسُور خَاطْرَه بِيَنْتَقَلْ لَبْلادَه

نَاشَه الصَّدَا صَدَّا شَبَحْ عَازَاتَه

   يَا سِي (عَلِي) كُونُوا سَبَبْ في رْدَادَه
وَلَد زِينْ رَاهُو ضَيْ جَمْعِيَّاتَه  

 كَانْ غَابْ مَ المُغْرُبْ تْجِي لُوسَادَه

كِيفْ الدَّجَاجَة الحَيْ صَارْ مْبَاتَه

 

 لَا هَدْرزَة لَا يُقصْدُوهْ أَنْدَادَه

 

وقد بدا أن (بن حسن) مؤيدا لقرار المنع، وأرسل ردا إلى (بوزيتونة) قال فيه:

يَسْقَاتَه دُولَة

   يَاسَاقْ يَعْجبْني وْجَا في وْصُولَه

ايَّامْ قَبلْهَا لُو رَيتْ فِينَا لُولَه

 

 عَمَلْنَا خَرَبْ مَاهُوشْ فِي مَعْتَادَه

تَلْقَى الْوَلَدْ فِي السُّوقْ يرْضِي زُولَه

   شَارَقْ شَرَقْ مْشَمرَاتْ أزْنَادهَ
كَابِي عَلَى الْحَمَّاس عِينَه حُولَه  

 عَلَي رُكنْ يَشْبَحْ لك وْمَا لَهْ رَادَه

فْـ هَا الأمرْ مَا عِنْدي كَلاَمْ انْقُولَه  

 الْبُو عَ الْعَوجْ دِيمَا يْرُدْ أَوْلادَه

وَاحْنَا كُلنَا هَالْحَالْ مَا نَرْضُوا لَه

   ولَا هْنَاكْ منْ يَرْضَى فَسَادْ بْلاَدَه
حَقْ صَارتْ دُوَّة  

 ايَّام قَبلْ مَا صَارتَشْ صَارتْ تَوَّا

سْنِينْ قَبلْ هَلْهنْ كَافْلينْ مْرُوَّة

   مَا هُمْ أَمْثَالْ النَّاسْ عَصْركْ هَذَا
تَلْقَى الْوَلَدْ اللِّي صِغِيرْ بْنَوَّة  

 فِـ السُّوقْ نَاصبْ صُفْرتَه وْبَرَّادَه

وْصَنْعَةْ خَوَاتَه يْدِيرْ فِيهَا هُوَّ

   يْحَمَّسْ وْلَاهِي الْبُوهْ لَا لَجْدَادَه
هَذَا الْحَدِيثْ اللِّي صَحِيحْ تَلَوَّى  

 مْشَاهْدِينَا مَ الْحَدْ لَا لَحْدَادَه

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى