* كتب/ هشام الشلوي،
عُرف عن شيخ العربية محمود شاكر رحمه الله رفضه للفظة ومصطلح تراث، لارتباط ذلك في ذهنه بالموت الثقافي والحضاري المادي والمعنوي، وطالما أننا أمة تدب على ظهر الأرض، لها تاريخ تستمد منه أنفاسها، وتكافح في حاضرها وتدافع عن نفسها ضد موجات وموجات من الانحرافات العقدية والفكرية والثقافية، فهي حية، وما تملكه من إرث لم يمت بعد ولن يموت، لأن التعهد بالحفظ جاء من الله عز وجل خالق العوالم ومبدعها.
وفي ظني أننا نحيا ونعيش في زمن الطباعة منذ اكتشافها في القرن السادس عشر أو قريب من ذلك، وتكديس الكتب بعضها فوق بعض، أي إن أمتنا لم تبدع لها عقلا جمعيا يستلهم من التراث دلائل وطرق وأدوات التفكير المناسبة لقضايا عصرها، فالرد التيمي على منطق أرسطو لا يزال قائما ثابتا، بوصفه ردا إسلاميا على آخر يوناني خرج من سياقات ومجالات تداولية ومعرفية مختلفة ومتباينة، ومتناقضة مع أدواتنا ومجالاتنا التداولية الإسلامية المرتكزة على كتاب الله عز وجل وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم. وينطبق القول ذاته على ردود الغزالي الفلسفية على تهافت مناهج عصره العقلية والفكرية.
تبدو الإشكالية في أن ولوج تراثنا مربوط ربطا لا يمكن فصمه باللغة، فاللغة هي الفكر والفكر هو اللغة، وطالما أننا بعيدون عن هذه اللغة فالمسافة تزداد بعدا بنا عن إمكانية إبداع رد جماعي وجمعي لما يتهدد ثقافتنا في الحاضر، فاللغة هي التي منحت أسلافنا أدوات ردهم على قضايا عصرهم، فهي ليست مجرد وعاء أو فروع، بل هي أصل من أصول الفكر، وجذر لو قُطع تاه الفكر وتشرذم ويبست الفروع.
ولتفادي هذا الاستعصاء اللغوي، اخترعنا الرد الداخلي كأحد أدوات الدفاع، فالرد على اليونان بالمسيحية، ونقض هذه الأخيرة جاء بتنوير القرن السادس عشر، وتسخيف التنوير كان بما بعد الحداثة التي سخرت من العقل ومنجزاته.
في وقت مبكر طرح الفكر الإسلامي، بسبب الترجمة من اليونانية، قضايا ما كان يجب أن تلقى حظا من الاهتمام، لأن الإجابات عليها جاءت شافية وافية مطمئنة للعقل والقلب والروح. لماذا يبحث العقل المسلم في مسألة قدم العالم وحداثته، والقرآن الكريم حسم هذه المسألة بأنه مخلوق لله تعالى؟ ما الذي اضطر ابن سينا وابن رشد والفارابي إلى أن تتشعب بهم الطرق والاحتيال والدوران حول مسائل ما وراء الطبيعة التي شرحها القرآن الكريم شرحا وافيا، وأثبت فشل عقولنا وحدها في الوصول إليها، ودلنا على طريق السمع والخبر من طريق الحكيم الخبير؟ وما الذي دعاهم إلى تهوين العقل الإسلامي وتلويثه وتشويهه، وحصر مصادر الفهم في العقل، مع أن القرآن أضاف مصادر أخرى أكثر رحابة وطمأنينة ويقينا وسكونا وسلاما مع العقل والقلب والروح والكون؟
إن القول: إن هؤلاء الفلاسفة كانوا ضحية للسلطات السياسية وحدها، هو قول يجانبه الصواب في أغلبه، فالردود الحاسمة الفلسفية العقلية والإيمانية كبحت من تأثير هؤلاء الفلاسفة على العقل المسلم. وإن تصويرهم أنهم أصحاب فكر حر واجهوا قوة الظلام والشر، هو قول تنقصه الدقة، وأظن أن أشرس حملة لتقويض العقل المسلم هي ما ضلع فيه هؤلاء الفلاسفة من محاولة اختراع قضايا هي مسلمات ويقينيات كبرى للمسلم، ولا أعد نفسي متجاوزا للحد إن قلت: إن شرهم والتغريب قريب من قريب.
والإسلام وحضارته من أول يوم نزل فيه قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) وهو في حالة مواجهة مستمرة مع تيارات الزندقة بكل تخرصاتها وألوانها وشخوصها وظروفها التاريخية، ولم تبدأ تلك المواجهة مع صعود الغرب وتغلبه الحضاري، بل كانت مبكرة مع الفرس والرومان واليونان قبل أن تعرفهم أوروبا، والمعركة الفكرية أكثر وأكبر من كل المعارك العسكرية التي خاضها المسلمون وعرفوها، إذ إن المعركة الفكرية التي ساحتها العقل كان قادتها مسلمون بسبب تطلعهم إلى ما لا يطيق عقل أن يصل إليه إلا من طريق الله.
لذا حجج بعض المتهافتين من بني جلدتنا لها واجهة، وهي تلك التي تقول: إن الإسلاميين يحاولون استلهام طرق وأدوات التفكير القديمة على مسائل حديثة لا تمت للزمن الحاضر بصلة. مصيبون في ذلك لا بسبب صدق نواياهم، بل لأننا لم نقرأ ونفهم حقيقة المواجهات الفكرية في تراثنا، وكيف أن ردود أسلافنا كانت على أزمات دهرهم وزمنهم، وأن ردنا الحالي يحتاج إلى طرائق جديدة وأساليب جديدة نابعة من الوحي ومنطقه.