* كتب/ خالد الجربوعي،
“القبيلة” هي مظلة اجتماعية لجماعة من الناس تنتمي في الغالب إلى نسب واحد يرجع إلى جد أعلى أو اسم حلف قبلي يعدّ بمثابة جد، وتتكون من عدة بطون وعشائر غالبًا ما يسكن أفراد القبيلة إقليما مشتركًا يعدونه وطنًا لهم، ويتحدثون لهجة مميزة، ولهم ثقافة متجانسة أو تضامن مشترك (أي عصبية) ضد العناصر الخارجية على الأقل.
“الدولة” هي مجموعة من الأفراد يمارسون نشاطهم على إقليم جغرافي محدد، ويخضعون لنظام سياسي معين متفق عليه فيما بينهم يتولى شؤون الدولة، وتشرف الدولة على أنشطة سياسية واقتصادية واجتماعية تهدف إلى تقدمها وازدهارها، وتحسين مستوى حياة الأفراد فيها، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول، وإن اختلفت أشكالها وأنظمتها السياسية.
هذه إحدى تعاريف القبيلة والدولة والفرق بينهما، ودور كل واحدة منهما في المجتمع، وما يفترض أن يحدث فعلا حتى لا يحدث بينهما تداخل وصراع لصالح إحداهما على حساب الأخرى، وحتى يمكن أن يقف دور كل واحدة منهما عند الحد الذي لا يضر أو يتداخل مع دور الأخرى، لتتمكن الشعوب من بناء دولة حقيقية تكون المواطنة أساسها بعيدا عن أي تفرقة أو تعصب قبلي أو جهوي أو سيطرة من هذا النوع، فيما يمكن للقبيلة أن تحافظ على موروثها الاجتماعي وتمسكها القبلي دون أن تخرج عنه أو تمنعه الدولة أو ترفضه، عندما يكون في حدود معينة ومكانة لا تتجاوز المقبول، أوتسطع على حساب الدولة المدنية الحقيقية..
لكن في بلادنا للأسف ومنذ عقود تداخلت الأمور في بعضها البعض، وأصبحت لا تفرق بين دور ومكانة القبيلة، ودور ومكانة الدولة ومؤسساتها، لتتجاوز القبيلة دورها الاجتماعي المفترض والمقبول، وتتدخل في دور الدولة، العام والسياسي، وتحاول أن تكون لها كلمة وصوت في تحديد المسؤوليات وفرض السلطات والتحكم في المؤسسات العامة، ولو على حساب القانون والدولة والنظام، من خلال شخوص وأجسام هلامية كل خلفياتها قبلية، وكل همها مصالح جهوية لهذه القبيلة أو تلك.. حتى إنها مستعدة لرفض أي نظام حكم حقيقي يعمل على المساوة بين أبناء الوطن، وعدم التفريق بين انتماءاتهم القبلية الجهوية، فتصدر البيانات وترسل البرقيات وتنظم الوقفات باسم هذه القبيلة أو تلك، من أجل دعم هذا الحاكم أو طالب السلطة، الذي لابد أن يرد لهذه القبيلة أو تلك جميلها بتمكين أبنائها في مواقع المسؤولية والسلطة، دون أي مقدرة أو كفاءة، لتتحول مؤسسات الدولة إلى موقع لمنح العطايا والمكافآت وأماكن لتقديم الولاءات بين الأطراف الحاكمة والجماعات القبلية التي تقف مع هذا الطرف أو ذاك ماضيا حاضرا.. لتكون الدولة ومؤسساتها وقوانينها هي من يدفع الثمن في مثل هذه العلاقة بين الحاكم وصاحب السلطة وداعمي القبلية والقبليين وتدخلاتهم في شؤون الدولة العامة والسياسية.. حتى إنك تجد أن أكثر الناس داعمين لحكم الأفراد وفي مقدمتهم العسكر هم أصحاب الانتماء القبلي الجهوي على حساب الدولة، لأن مصالحهم تلتقي في هدف واحد مع الحاكم الواحد، وهو تسخير إمكانيات الدولة في خدمة أهداف ومصالح محددة تتوقف عندهم، ولا يهمهم بعد ذلك بناء دولة حقيقية أو إقامة وطن، رغم أنهم يفعلون ذلك كما يدعون باسم الوطن ومن أجل المواطن.. والواقع يخبرنا ويقدم لنا أحداثا ووقائع عكس ذلك تماما، دون داع للدخول في تفاصيل وتسميات وأحداث لا أعتقد يجهلها إلا جاحد أو ناكر أو صاحب مصلحة من وراء ذلك.
ووراء كل ذلك أصبح الانتماء إلى قبيلة أو قبائل بذاتها يمنحك كل الامتيازات، ويوفر لك كل المتطلبات، فيما الانتماء لغيرها قد يحرمك حتى من أبسط حقوقك الأساسية لسبب أو آخر..
واليوم وبكل أسف ارتفع منسوب هذا التدخل، وأصبح التعصب القبلي والجهوي يقود الكثير من الأحداث ويدعم طرفا ضد آخر، بل ويتحول إلى سلاح في يد الأطراف لقتال غيرها من القبائل والجماعات الأخرى في المجتمع، حتى تحولت بعض الحروب والمواجهات التي هي في أساسها حروب سلطة وثروة إلى حروب قبلية؛ لأن من يتصدر مشهدها ويقودها هم من ينتمون إلى قبيلة أو أخرى، فنسبت إليهم الأحداث وأصبح الدفاع عن أفعالهم من قبل أهلهم والقبائل التي ينتمون إليها حقا وباطلا ولو على حساب البلاد والعباد التي تتحول في هذه الحالة إلى خصم، بل وعُدّوا من أجل نصرة فرد أو أفراد من هذه القبيلة أو تلك؛ لأنهم يطلبون مصلحة أو سلطة، ولا يجدون وسيلة لذلك إلا استغلا ل أبناء قبليتهم أو من يقف معهم في تحقيق ذلك، من قبائل وجماعات جهوية أخرى، بل حتى من يرتكبون الجرائم الجنائية ويفعلون ما لا يصدق من أفعال وجرائم تتوجب العقاب والمحاسبة ضد الآخرين عام وخاص، يصبح الاختفاء داخل مدنهم وقبائلهم أمر طبيعي لتكون حامية لهم من كل مطالبة ومحاسبة ممكنة، بل قد تفتح من أجلهم الجبهات إن تم القبض عليهم حتى وهم يرتبكون جرائمهم، ويقبض عليهم بالجرم المشهود فتقفل المؤسسات وتصدر البيانات وتوقف الأعمال من أجل س أو ص؛ لأنه تم القبض عليه ويراد معاقبته على أفعاله فيتحول إلى بطل قبلي لا يجب تركه، ولابد من نصرته بأي ثمن مهما كانت أعماله وجرائمه.
دون أن ننسى الإشارة إلى الأجسام القبلية التي أصبحت تخرج لنا كل يوم، ومن كل الجهات وتحت كل التسميات طالبة أن يكون لها دور ومكان في الشأن العام والتدخل في الأمور السياسية والعمل على منع المؤسسات الرسمية من القيام بدوها الذي تريد أن تكون هي صاحبة الكلمة فيه دون
غيرها، فأصبح عندنا.. مجلس أعلى للقبائل الليبية.. شيوخ قبيلة.. مجلس لقبائل ليبيا.. مجلس أعيان وحكماء “لا نعلم من منحهم شرف الحكمة والمعينة”، وبأي مواصفات تم اختيارهم حتى أصبح الأمر يتم في المدن الحضرية المختلطة والتي يفترض أنها أول من يدعم الدولة ومؤسساتها ويمنع مثل هذه الهرطقات والأجسام الهلامية الفارغة الباحثة عن دور ومكان على حساب الدولة ومؤسساتها لا أكثر، وغيرها من أجسام وتسميات قبلية ما أنزل الله بها من سلطان.. يتصدر أصحابها ومن يشكلون المشهد في ليبيا ويزحمون كل الأطراف الأخرى من أجل كسب موقع لهم في البلاد، وأمامهم تغيب كل مظاهر السياسة الحقيقة وهي الأحزاب، فلا وجود لحزب، ولا يستطيع أحد أن يتقدم العمل السياسي والترشح لأي انتخابات يمكن أن تجري في البلاد إلا على خلفية قبلية جهوية لا غير، لتفقد الأحزاب والجماعات السياسية دورها ومكانتها أمام الدور القبلي.
فيتقدم المترشحون حسب مدنهم ومناطقهم التي ينتمون إليها ويتحولون إلى باحثين عن مصالحها المحدودة على حساب بقية الوطن، ويعملون على خدمة من انتخبهم من مدن وقبائل، لا حسب أحزاب وتيارات سياسية يكون لها وجود ومكان في طول البلاد وعرضها، فيصبح خدمة كل البلاد وطلب ولاء كل الأماكن والمدن هدفا لها، فتحاول العمل على خدمة كل البلاد والعباد دون تمييز أو تعصب قبلي أو جهوي نعيشه اليوم بامتياز.
دون أن ننسى تقسيم المناصب الذي يتم على أساس جهوي وقبلية قبل كل شيء، فيتم تحويل عديد المؤسسات إلى مؤسسات قبلية حسب من يديرها ويتحكم في سلطتها، فتتحول قبلة لأبناء مدينته و قبيلته لتكون لهم الأولوية في العمل، وأخذ المكان والمكانة في تلك المؤسسة بعيدا عن كل كفاءة أو أهمية لوجودهم، المهم أنهم من أبناء قبيلة من يدير المؤسسة بل ويملكها تقريبا، لتصبح حصة من حقه وحق أبناء قبيلته قبل غيرهم، كما يطلب البعض بل ويمارس هذا الدور بامتياز في جل مؤسسات الدولة في البلاد،
وكل هذه الأفعال ليست بجديدة علينا، بل هي إحدى موروثات النظام السابق، الذي كان يستغل بعضا من القبائل في تثبيت حكمه على حساب أخرى، لتكون لها المكانة والامتيازات دون غيرها، وإن كان ذلك يتم تحت سقف محدد ودور مرسوم لا يخرج عنه أحد، عكس ما يحدث اليوم حيث ازدادت الأمور سوءا، وصارت القبائل هي من تتصدر المشهد أكثر من ذي قبل، وهي من تتحكم في مصير البلاد والعباد حسب دورها ومكانتها وقوتها الحالية، لتختفي أمامها مؤسسات الدولة وتصبح مجرد وسيلة في يدها للضغط والحصول على المكاسب والمصالح الجهوية المحدودة، بل وصل الأمر إلى أن يكون للقبائل وفود وجماعات تسافر خارج البلاد وتلتقي أصحاب السلطة والمسؤولين في دول أخرى، لتناقش معها الأمور السياسية والشأن العام في البلاد، دون أن تكون لها أي صفة رسمية، إلا دورها القبلي الجهوي بامتياز، حتى وصل الأمر بأحد رؤساء الدول التي تمت زيارتها من قبل هذه الوفود القبلية بطلب أن يتم كتابة دستور للبلاد من قبل القبائل الليبية لا عبر مؤسسات رسمية متخصصة، كما يحدث في غيرها، في سابقة لا أعتقد أن له وجود في أي دولة أخرى من دول العالم، لترسل وفودا بهذه التسميات لتجتمع برؤساء ومسؤولي تلك الدول بحجة البحث عن حلول متناسية أنها بمثل هذه الأفعال تعرقل كل الحلول وتزيد في الأزمة وتشابكها.
إن ما يحدث في ليبيا من تدخل قبلي على حساب الدولة ينهي كل عدالة ومساوة، وفكرة قيام دولة ديمقراطية حقيقية أساسها القانون والعدالة والمواطنة لا غير كما بقية دول العالم، فرغم أننا أصبحنا نعيش القرن الواحد والعشرين قرن العلم والتكنولوجيا والسرعة والإدارة الحديثة والدولة الديمقراطية، التي تصون حقوق مواطنيها ولا تفرق بين مواطن وآخر، إلا بما يقدمه من عمل وإنتاج، ولكل حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، دولة المواطنة التي لا تفرق بين انتماء جهوي ولا قبلي ولا غيرها، حيث تتجه كل الجماعات البشرية إلى تكوين دول حديثة تجري الواقع وتسير مع متغيراته، نجد أننا في ليبيا نعيش خارج هذا التاريخ وبعيدا عن هذا المنطق الحضاري، ففيما نعيد كلاما وتصريحات وشعارات أننا نريد بناء دولة مدنية حديثة يسودها العدل والقانون، ولا فرق بين مواطنيها، والكفاءة هي المعيار الأساسي للوصول إلى المناصب وقيادة البلاد، وكل هذا الكلام الذي لا ينتهي، نجد أنفسنا عند الفعل أن كل ذلك يبقى مجرد كلام نظري لا واقع ولا حقيقة له إلى حد كبير، لنجد أن الواقع الحقيقي هو استمرار تكريس فكرة القبلية والجهوية والمحاصصة التي لا تقدم إلا تمزيق الأوطان، ومزيد الفرقة والصراعات، وفتح الجبهات لنجد أنفسنا لا نبني دولة حديثة كما بقية دول العالم، ولا نبقى في جهويتنا وتعصبنا القبلي المقيت، فنتحول إلى عمل خلطة نشاز لا قيمة لها بين الدول الحديثة، من خلال تقسم السلطة والمناصب وحتى الثروة بشكل قبلي جهوي إقليمي، ولا مكان فيه لا لدولة ولا لمؤسسات حضارية حقيقية دون غيرها.
إننا ونحن نعيش هذا العصر وزمن التكنولوجيا والاتصال عن بعد، وزمن الدولة الوطنية ودولة المواطنة والقانون والمؤسسات في جل دول العالم، ما زالنا نبحث عن بناء دولة مؤسسات وقانون شكلي، وفي نفس الوقت نريد ونعمل واقعيا على أن نبقى تحت سلطة القبيلة وسياستها وتعاملها مع الأمور، فنزيد الفوضى ونطلب الرعاية والحماية من القبيلة التي تدعمنا عندما نريدها وتحمينا عندما نخطئ، لتكون هي الغطاء الحقيقي لكل أفعالنا، لهذا واجب دعمها وعدم إخراجها من المشهد بكل ثمن ومن كل الأطراف والأفراد، وهو أمر يمنع أن نسمى بلادنا دولة، أو نطلق عليها قبيلة، ولا يبقى أمامنا إلا أن ندعوها “بالقبيدولة” لتجمع بين الاثنين في معادلة زائفة فارغة نشاز، لا تقدم إلا التأخر والتراجع، والبقاء خارج العصر والزمن، وخارج كل الحسابات.
ولتحيا “القبيدولة” حتى إشعار آخر..