الأناضول-
“خطر اندلاع نزاع قد يتسم بالعنف إذا تم الإقدام على تسمية حكومة على نحو أحادي الجانب”، هذا ما حذر منه المبعوث الأممي إلى ليبيا السنغالي عبد الله باتيلي، في الوقت الذي أصدر مجلس النواب الليبي قوانين الانتخابات، التي لا تحظى بدعم شريكه السياسي المجلس الأعلى للدولة.
فالمشهد الواقعي يختلف عن ذلك الذي يتم التسويق له بأن ليبيا متجهة نحو الانتخابات بعد استلام المفوضية العليا للانتخابات لقانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 9 أكتوبر، ما يضع أمامها (قانونيا) 240 يوما من تاريخ دخولهما حيز التنفيذ في 5 أكتوبر، بحسب باتيلي.
لكن مجلس النواب لم يعلن نشر قوانين الانتخابات في الجريدة الرسمية على الفور، بل أعلن نشرها في 2 نوفمبر الجاري، رغم اعتراض المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري).
ويمثل اللقاء المرتقب لمحمد تكالة، رئيس المجلس الأعلى للدولة، مع عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، في القاهرة، فرصة لتجاوز عقبة الخلاف بشأن قوانين الانتخابات.
لكن هذا اللقاء الذي سيكون الأول من نوعه بين عقيلة وتكالة، منذ انتخاب الأخير رئيسا لمجلس الدولة في 6 أغسطس الماضي، يواجه خلافات جوهرية لطالما أعاقت التوافق بين الطرفين خلال السنوات الماضية، خاصة ما تعلق بترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية.
بين النظرية والواقعية
نظريا؛ الانتخابات لا بد أن تجرى قبل نهاية مايو المقبل، وفق حسابات الأناضول.
واقعيا؛ نحن أمام مشهد مشابه لانتخابات ديسمبر2021، عندما أصدر مجلس النواب قوانين الانتخابات دون التوافق مع المجلس الأعلى للدولة (بمثابة غرفة ثانية للبرلمان)، والتي توقفت قبيل إعلان قائمة المرشحين الرسمية للانتخابات الرئاسية، بسبب تضمنها ثلاث أسماء جدلية (سيف القذافي، حفتر، عبد الحميد الدبيبة).
لكن هناك سيناريو آخر مكرر وأخطر، متعلق بتشكيل مجلس النواب حكومة جديدة “غير توافقية”، من شأنه أن يشعل حربا جديدة، على غرار الاشتباكات العنيفة في العاصمة طرابلس بين الكتائب الداعمة لحكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والكتائب الداعمة للحكومة المكلفة من مجلس النواب في أغسطس 2022، وأوقعت عشرات القتلى والجرحى.
يسعى مجلس النواب الداعم لقائد قوات الشرق خليفة حفتر، للإطاحة بحكومة الدبيبة، بالتوافق مع جناح في المجلس الأعلى للدولة بقيادة رئيسه السابق خالد المشري، وتشكيل حكومة جديدة “لإجراء الانتخابات”.
ولتحقيق هذا السيناريو تم اشتراط إجراء الانتخابات بتشكيل حكومة جديدة، وجرى تضمين ذلك في اتفاق لجنة 6+6 المشتركة بين مجلسي النواب والدولة.
إلا أن خسارة المشري، رئاسة مجلس الدولة، وصعود محمد تكالة، المدعوم من الموالين للدبيبة، خلط حسابات مجلس النواب، خاصة بعد اعتراض المجلس الأعلى للدولة على التعديلات التي أدخلت على القوانين الانتخابية، ويصر على أن نسخة بوزنيقة، هي التي ينبغي أن تُعتمد.
انسداد سياسي
المشهد السياسي الحالي وصل إلى طريق مسدود، فلا المجلس الأعلى للدولة ممثلا في رئيسه تكالة، سيقبل التنازل عن نسخة بوزنيقة، ولا مجلس النواب سيقبل التراجع عن القوانين التي صادق عليها.
أحد نتائج هذا الانسداد، أن المجلس الأعلى للدولة تجاهل طلب عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، “تشكيل لجنة مشتركة لقبول طلبات الترشح لرئاسة الحكومة” الجديدة.
وهذا التجاهل يصب في مصلحة الدبيبة، الذي يرفض تسليم السلطة إلا لحكومة منبثقة عن برلمان منتخب، ما يعني استمرار الوضع القائم؛ انقسام سياسي بين الشرق والغرب، وعدم إجراء الانتخابات.
كما أن المفوضية العليا للانتخابات أبلغت البعثة الأممية أن تنفيذ القوانين الانتخابية لن يبدأ إلا بعد حل مسألة “الحكومة الجديدة”، تماشيا مع المادة 86 من قانون الانتخابات الرئاسية والمادة 90 من قانون مجلس الأمة، وفق ما أعلنه باتيلي في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن.
أي أن العدد التنازلي لـ240 يوما الذي ستجرى خلاله الانتخابات لن يبدأ من يوم 5 أكتوبر، تاريخ دخول قوانينها حيز النفاذ، بل من تاريخ اعتماد حكومة جديدة.
وربط إجراء الانتخابات بتشكيل حكومة جديدة، يجعل إجراءها “مستحيلا”، ما لم تتغير المعطيات الحالية.
لكن من الممكن أن يتكرر سيناريو 2021، عندما دعمت الولايات المتحدة الأمريكية قوانين انتخابات غير توافقية أصدرها مجلس النواب منفردا دون موافقة مجلس الدولة، لكن قطار الانتخابات لم يصل إلى محطته الأخيرة.
وهذا السيناريو ليس مستبعدا، خاصة أن مجلس الدولة كان ينتظر موقفا داعما له من البعثة الأممية بعد “خرق” التعديل الدستوري الـ13 عند تعديل نسخة بوزنيقة، لكن المبعوث الأممي حمّله ضمنيا مسؤولية عرقلة الانتخابات.
إذ قال باتيلي في إحاطته الأخيرة إن “رفض المجلس الأعلى للدولة، للتعديلات التي أدخلتها لجنة (6+6) بعد بوزنيقة، يشكل خيارا سياسيا، يعرّض للخطر كل المكاسب التي حققها المجلسان، والحلول الوسط التي توصلا إليها بشق الأنفس”.
باتيلي يتخلى عن “الآلية البديلة“
كان مفاجئا أن لا تتضمن إحاطة باتيلي أمام مجلس الأمن الدولي في 16 أكتوبر، أي إشارة لتحذيراته السابقة بتشكيل “آلية بديلة” أو “لجنة تسييرية عليا” إذا أخفق مجلسا النواب والدولة في التوصل لاتفاق حول قوانين الانتخابات في الوقت المناسب.
وحذر باتيلي في مارس الماضي، بالنظر “في الإجراء البديل الذي يمكن أن نسلكه”، لكنه تجاهل هذا التحذير في إحاطته الأخيرة رغم الانسداد الحاصل.
وخطة باتيلي الحالية، دعم ما توصلت إليه لجنة 6+6 من قوانين انتخابات، بما فيها التعديلات الأخيرة التي اعترض عليها المجلس الأعلى للدولة، والمطالبة بمزيد من التنقيحات، حتى تصبح هذه القوانين قابلة للتنفيذ.
لكن الأهم من ذلك، دعوة باتلي الأطراف الليبية “لتشكيل حكومة موحدة لقيادة البلاد إلى الانتخابات”، بحيث تتولى البعثة الأممية “تيسير هذه العملية”.
وقد يبدو هذا الطرح متماهيا مع طلب عقيلة، بتشكيل لجنة متساوية الأعضاء بين مجلسي النواب والدولة للنظر في ترشيحات لرئاسة الحكومة الجديدة، إلا أن باتيلي له وجهة نظر مختلفة.
إذ أنه لا يريد أن يقتصر تشكيل الحكومة الموحدة على مجلسي النواب والدولة، بل أن يشمل “أصحاب الشأن جميعهم، بمن فيهم القادة الرئيسيين”.
وأصحاب الشأن، بحسب باتيلي، هم “المؤسسات الرئيسية (مجلسي النواب والدولة والرئاسي وحكومة الوحدة..)، بل وأيضا الجهات العسكرية والأمنية، والأحزاب السياسية، والمرشحين، وقادة المجتمع، ومنظمات المجتمع المدني، ومجموعات النساء والشباب، والإعلاميين وغيرهم من المكونات”.
ودعا كل هذه الأطراف للاجتماع والاتفاق على تشكيل “حكومة موحدة” بتيسير من البعثة الأممية بهدف إجراء الانتخابات.
ومقترح تشكيل “حكومة موحدة” جديدة، بإشراك أطراف سياسية وعسكرية ومجتمعية وفئوية.. لا يعني سوى دخول مرحلة انتقالية جديدة، تتطلب أشهرا أطول للتوافق حول مسارها، ما يعني أن فرصة إجراء الانتخابات قبل نهاية العام تبخرت، ومن المرجح أن يتم دحرجة موعدها إلى نهاية العام المقبل أو الذي يليه.
وليبيا ليست في فسحة من الوقت، فالجغرافيا السياسية المحيطة بها ملتهبة سواء في السودان أو في النيجر أو تشاد، بل وحتى في مصر، التي يواجه أمنها القومي تهديدا بسبب الحرب على غزة، ومحاولات إسرائيل تهجير أكثر من 2.2 مليون فلسطيني إلى سيناء.
وباتيلي، نفسه لمح إلى أن ليبيا مهددة بـ”التفكك”، ودعا إلى عدم الاستخفاف بالأزمات المستمرة في السودان ودول الساحل وتداعياتها على البلاد.
وهذا الوضع الأمني المتأزم في أكثر من جبهة دولية، ناهيك عن مواجهة تحديات إعادة إعمار مدينة درنة، التي أغرقتها الفيضانات في 10 سبتمبر الماضي، تجعل الليبيين أمام تحدي تقديم تنازلات أكبر لتوحيد بلادهم، لتفادي سيناريوهات أسوأ من التفكك.