الأناضول-
تطور مهم في المشهد الليبي من شأنه إعادة ترتيب الأوراق السياسية لأطراف الصراع، بعد خسارة خالد المشري رئاسة المجلس الأعلى للدولة، أمام مرشح محسوب على رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة.
فالمشري فاز في الجولة الأولى بفارق 10 أصوات عن أقرب منافسيه الثلاثة بعد نيله 49 صوتا من إجمالي 129 صوتا مشاركا (137 مجموع الأعضاء)، مقابل 39 صوتا لمحمد تكالة، و36 لناجي مختار، و4 لنعيمة الحامي.
لكن المشري، خسر الجولة الثانية بفارق 5 أصوات فقط، بعد حصوله على 62 صوتا مقابل 67 صوتا لتكالة، من إجمالي 131 عضوا شارك في التصويت.
ـ المنتصر الأول.. أول المهنئين
أول مهنئي تكالة بفوزه برئاسة المجلس الأعلى للدولة، كان رئيس حكومة الوحدة، الذي خاض في الفترة الأخيرة معركة سياسية طاحنة مع المشري، الذي توصل إلى توافقات مع عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب، على تشكيل حكومة جديدة للإشراف على الانتخابات.
فالانتصار الحقيقي هو للدبيبة، قبل أن يكون لتكالة، بالنظر إلى خلاف الأول المعلن مع المشري.
رغم أن رئيس مجلس الدولة الجديد من الأعضاء الذين زكوا حكومة فتحي باشاغا، لكنه أيضا من المصوتين لانتخاب الدبيبة، رئيسا لحكومة الوحدة، في فبراير 2021، عندما كان عضوا في ملتقى الحوار السياسي، وفق متابعين ووسائل إعلام.
أما مواقفه الأخيرة فكانت معارضة للتعديل الدستوري الـ13، وللجنة 6+6 المشتركة التي أوكلت إليها مهمة إعداد قوانين الانتخابات، وخريطة الطريق، رغم أنه من الشخصيات البارزة في المجلس المؤيدة للتوافق.
كما أن المجموعة الداعمة للدبيبة في المجلس الأعلى للدولة صوتت لتكالة، وانضمت إليها مجموعة أخرى من حركة العدالة والبناء (إسلامية) ما سمح بحسم المعركة لمصلحته في الجولة الثانية.
ـ لماذا خسر المشري المعركة الأخيرة؟
فاز المشري برئاسة الأعلى للدولة خمس مرات متتالية، منذ 2018، والتي تجرى مرة كل عام، لكنه خسر الانتخابات السادسة بفارق 5 أصوات فقط، ما يعكس حدة الانقسام داخل المجلس.
أحد الأسباب الرئيسية لهزيمة المشري، دخوله في صراع مع الدبيبة، وجناحه في مجلس الدولة، ومضيه في توافقات مع عقيلة صالح، رأى فيها البعض تراجعا عن المواقف المبدئية المعلنة للمجلس، خاصة ما تعلق بترشح العسكريين ومزدوجي الجنسية للرئاسة.
فالتعديل الدستوري الثالث عشر الذي أقره مجلس النواب وأصدره في الجريدة الرسمية قبل تصديق المجلس الأعلى للدولة عليه، قسّم الأخير إلى فئتين الأولى تلتف حول المشري، والثانية تتشكل من 54 عضوا اعترضت على التعديل وقاطعت الجلسات.
وما زاد في استياء الكتلة المعارضة للمشري تنازل ممثلي مجلس الدولة في لجنة 6+6 عن مبدأ رفض ترشح مزدوجي الجنسية في الجولة الأولى من الانتخابات، ثم تمرير خريطة طريق الانتخابات بـ36 صوتا من إجمالي 137 عضو، حضر منهم 56 عضوا، أي أقل من ثلثي الحاضرين.
ولم يعتد أعضاء مجلس الدولة تمرير قوانين وقرارات مصيرية دون نصاب، وهي ممارسات لطالما انتقدوها في مجلس النواب.
كما أن صمت المشري إزاء تعديل مجلس النواب قانون التنظيم القضائي وتعيينه “مفتاح القوي” على رأس المجلس الأعلى للقضاء، ترك انطباعا سلبيا لدى أعضاء مجلس الدولة والقوى الفاعلة في المنطقة الغربية.
رغم أن للمشري قبل ذلك وقفة صارمة عندما قرر مجلس النواب إنشاء محكمة دستورية بدل الدائرة الدستورية، أجبر فيها الأخير على التراجع وتجميد التعديل القانوني.
فرغبة المشري في تغيير حكومة الدبيبة، وسعيه إلى تجنب محاولات المبعوث الأممي تشكيل إطار بديل عن مجلسي النواب والدولة، دفعاه للتقارب مع عقيلة صالح وتقديم عدة تنازلات، أغضبت حلفاءه في مجلس الدولة وبالمنطقة الغربية، وحتى داخل حزبه السابق العدالة والبناء، ما أضاع عليه كرسي رئاسة المجلس.
ـ تداعيات التغيير الجديد
وفق المواقف المعلنة لتكالة المتحدر من مدينة الخمس (100 كلم شرق طرابلس) وأعضاء المجلس الأعلى للدولة الداعمين له، فمن المتوقع وقوع تغييرات ليست بالضرورة أن تكون جذرية.
فرئيس مجلس الدولة، ليس وحده من يقرر طبيعة المرحلة المقبلة، بل التكتلات والتوازنات داخل المجلس وخارجه.
وتكالة على عكس المشري (الزاوية) وقبل عبد الرحمن السويحلي (مصراتة)، شخصية تكنوقراطية لا يحظى بدعم حزبي، أو مدينة قوية مثل الزاوية أو مصراتة أو الزنتان أو طرابلس، ولا من كتائب قوية، ما يجعل قدرته على التأثير في قرارات المجلس مقتصرة على شخصيته واستطاعته نسج تحالفات داخل المجلس وخارجه.
فمن المتوقع أن يعيد تكالة النظر في التعديل الدستوري الثالث عشر، الذي تم الطعن عليه في الدائرة الدستورية للمحكمة العليا، أو سيعيد التصويت عليه من أجل إسقاطه، بضغط من الكتلة الرافضة للتعديل.
وإذا تم إسقاط التعديل الدستوري الثالث عشر فإن كل ما ترتب عليه سيصبح غير ملزم، وبالأخص خريطة الطريق، التي توافقت عليهما لجنة 6+6 المشتركة، والتي تنص على تشكيل حكومة مصغرة وإجراء الانتخابات بعد 240 يوما من دخول قوانين الانتخابات حيز النفاذ.
لكن هذا يخضع للتوازنات داخل مجلس الدولة، إذ يعتقد أن الكفة ما زالت تميل للكتلة المؤيدة للتوافق مع مجلس النواب، خاصة من أعضاء المنطقة الشرقية والجنوبية، لذلك فالأمور غير محسومة بعد.
وليس من المستبعد أن يعارض تكالة تشكيل حكومة جديدة بدلا عن حكومة الوحدة، بالنظر لحاجته إلى دعم الدبيبة، على الأقل في الأشهر الأولى من ولايته، ما سيعيد الحوار بين المجلسين إلى نقطة الصفر.
رغم أن تكالة، الحاصل على دكتوراه في المحاسبة من المجر، لا يصنف من الصقور في مجلس الدولة، بل من المؤيدين للحوار مع مجلس النواب، والحاجة إلى حكومة واحدة لتنفيذ الانتخابات.
المعركة الأخرى التي من المنتظر أن يخوضها تكالة، تلك المتعلقة بتعديل مجلس النواب لقانون تنظيم القضاء، الذي أتاح له صلاحية تعيين رئيس المجلس الأعلى للقضاء بدل هيئة التفتيش القضائي.
واستغل مجلس النواب ذلك في تعيين مفتاح القوي، رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء، رغم صدور حكم من الدائرة الدستورية بعدم دستورية تعديل قانون التنظيم القضائي، وبالتالي تثبيت عبد الله أبورزيزة، في منصبه رئيسا للمجلس، بدعم من حكومة الدبيبة.
ومن المتوقع أن يلعب تكالة دورا في منع محاولة مجلس النواب تدجين القضاء أو إقحامه في الصراعات السياسية، بدعم من مجموعة الـ54 المعارضة.
لكن وفق هذا السيناريو، فإن مجلس الدولة برئاسة تكالة، سيدخل في صراع مع مجلس النواب الذي يستعد لمناقشة قوانين الانتخابات التي توافقت عليها لجنة 6+6 رغم أنها ملزمة، ما يهدد بانهيار تلك التوافقات المتشكلة في عهد المشري، وسيشرع الطرفان في حوار جديد.
غير أن المجلسين لا يملكان الكثير من الوقت، فالمبعوث الأممي عبد الله باتيلي، يسعى لإطلاق مسار تفاوضي شامل يضم أطرافا جديدة، بما فيها المجلس الرئاسي وحكومة الوحدة وبعض القيادات الأمنية.
فتولي تكالة رئاسة مجلس الدولة، لا يعني بالضرورة تغييرا جذريا في توجهات المجلس، بقدر ما يخضع ذلك للتوازنات والتحالفات بين مختلف التكتلات، وعلاقة المجلس بالحكومة والمجلس الرئاسي والكتائب الأمنية المسيطرة على المنطقة الغربية