* كتب/ عاطف الأطرش،
في سنوات الزمن الجميل… زمن الطفولة والمراهقة… كانت ظاهرة التسول في المجتمعات موجودة بشكل تقليدي… شخص ما يفترش الأرض… ملابسه رثة… هيئته فوضوية… ملامح وجهه بائسة… متسولاً حسنة هنا أو صدقة هناك… ومن بين كل مائة من المارة… يتعاطف أحدهم ببضع قطع معدنية أو ورقة نقدية صغيرة… وقد يتجول في الأزقة بين الأحياء… لتصيد المارة كطائرة مسيرة… أو يقف بشموخ أمام المساجد ككمين محكم لاصطياد المصلين!!
تمر هذه السنوات… ويتطور هذا الزمان بتطور أدواته… ولم يكن التسول استثناء من هذا التطور… فأصبح المتسول نوعا ما أكثر أناقة… بل أكثر ثراء أحياناً من معظم المتصدقين عليه… حتى الأساليب تطورت… فمن عبارة “لله يا محسنين” أو “حسنة لله”… تطورت إلى عرض صورة واضحة المعالم على وسائل التواصل الاجتماعي… لهاتف نقال محطم تمتلكه إحداهن نادبة حظها فيه… فيرق عزم ذكور الماعز المحيطين بها فيتبرع لها أحدهم بهاتف جديد… بالتأكيد مقابل بعض الدعوات الصادقة بطول العمر ودخول الجنة…
في ذاك الزمن الجميل… كان للمتسول اسم واحد يعرف به: شحاذ أو (شحات) بلهجتنا الدارجة هنا… وقد يطلق عليه لقباً متداولاً بين الناس بحسب طبيعة أو طريقة تسوله… ومع تطور هذا الزمان صار له صفات أخرى… عضو برلمان مثلاً يتسول عزومة عشاء في غربته النضالية… رئيس حكومة يتوسل اعترافاُ دوليا لشرعيته… أو حتى مذيعة تافهة تتناول غداءها مجاناً بأحد المطاعم كما تفعل قطط الشوارع!!
ومع تغول هذه الظاهرة العجيبة… انتهز الكثير من رواد الأعمال الفرصة… فكلما زاد المتسولون المحيطون به… كلما زاد حجم انتشار أعمالهم وازدهرت أحوالهم… فيمكن لرجل أعمال أن ينشئ صفحة ما على مواقع التواصل الاجتماعي… ويروج لبضاعة معينة ولنفترض أنها مواد منزلية على سبيل المثال… ويطلق حملة دعائية بأن من يعلق عشرة آلاف تعليق ويضع خمسة آلاف مشاركة ويحقق ألفين من الإعجابات فسيدخل السحب للفوز بطاقم من سكاكين المطبخ… هذه الخطوة ستوقظ المتسول القابع في مكنون الجمهور المتابع… ويبدأ بتنفيذ هذه الخطوات للفوز بالجائزة… ليتحقق بذلك الانتشار المطلوب!!
التسول طبعاً لم يعد يقتصر فقط على الحاجة للأشياء المادية… بل حتى المعنوية أخذت نصيبها في المشهد… فمن منا لم يمر عليه أحد “البلوقرز” وهو يهدد بحذف متابعيه غير المتفاعلين… في خطوة لتسول التقدير من الأصنام النائمة بصفحته أو من أبراج المراقبة التي تتابعه!!
كل هذه الفوضى التي سردتها… تسببت في ضرب قيمة هامة للإنسان… وهي كرامته… مما يؤهله بامتياز للانضمام لنادي التفاهة الذي أشار له “آلان دونو” في كتابه “نظام التفاهة”… فالعلاج هنا… هو تجاوز هذا النوع من المتسولين وتجاهل وجودهم… والتعامل معهم كوباء مثل كورونا… بالابتعاد عنهم لا التعاطف معهم وتملقهم!!