* كتب/ محسن الدريجة،
هل تعديل سعر الصرف ورفع قيمة الدينار ممكن؟ وماهي أسباب الركود الاقتصادي الذي تشهده البلاد؟
ارتفع سقف توقعات الكثير من الليبيين برفع قيمة الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية مع عودة إنتاج النفط وارتفاع أسعار النفط والغاز. لاشك أن تأثير ارتفاع سعر النفط وعودة تصدير كامل الكمية المتاحة من النفط والغاز (الذي لم يتوقف كلياً فقد حققت ليبيا متوسط تصدير يومي قدره700 ألف برميل في الفترة التي أغلقت فيها بعض الحقول والموانئ من 17 أبريل حتى اليوم) سيكون إيجابيا ويزيد كمية النقد الأجنبي المتوفر لمصرف ليبيا المركزي. إلا أن سياسة سعر الصرف في ليبيا ليست مرتبطة كلياً بارتفاع وانخفاض أسعار النفط على المدى القصير. مصرف ليبيا المركزي أمامه التزامات في شكل مرتبات ودعم ومصاريف تسييرية عليه تغطيتها، وهي نمت من حوالي 36 مليار دينار سنوياً لكل ليبي إلى أكثر من 80 مليار بسبب زيادة المرتبات بالدرجة الأولى، يليه أثر تعديل سعر الصرف الذي ينعكس في زيادة قيمة دعم المحروقات بالدينار الليبي، وتكلفة كل البنود التي تتطلب تغطية بالنقد الأجنبي، مثل تكلفة السفارات، العلاج بالخارج وكل الواردات.
في تقديري، أثر تعديل سعر الصرف على ميزانية عام 2020 حتى تحدد قيمة الميزانية لعام 2021 خلصت اللجنة المالية لمجلس النواب إلى أن إنفاق مبلغ 74 مليار دينار يعادل ما أنفقته حكومة الوفاق الوطني عام 2020. إلا أنه تمت إضافة مبلغ 12 مليار لهذا المبلغ لتغطية زيادات أقرت خلال السنة وإنفاق على التنمية فكان المبلغ الذي تم إنفاقه عام 2021 هو 86 مليار دينار وتم سحب مبلغ 24 مليار دولار لتغطية حاجة القطاع الخاص والعلاج والدراسة على حساب المواطنين والمصروفات الحكومية، في حين كان دخل النفط 21 مليار دينار، بعجز 3 مليار دولار. الزيادة في الالتزامات التي أصبحت حقوقا مكتسبة تعنى أن مصرف ليبيا المركزي سيضع في حسبانه أنه سيحتاج مالا يقل عن 80 مليار دينار لتغطية الحاجات الأساسية: مرتبات، دعم، مصاريف تسيرية. ولا يمكن لمصرف ليبيا المركزي اعتبار أسعار النفط الحالية دائمة، بل هي نتيجة ظروف غير معتادة والمتوقع أن سعر البرميل سيكون في حدود 80 دولار للبرميل في العام القادم.
مصرف ليبيا المركزي يواجه زيادة في الطلب على العملة حيث بلغت خلال الستة أشهر الأولى 14 مليار دولار مع أن إنفاق الحكومة لم يتجاوز 37 مليار دينار. لماذا؟.. لأن هناك كمية كبيرة من الدينار الليبي لم تنخفض بالقدر المطلوب لتعديل سعر الصرف نتيجة زيادة إنفاق الحكومة العام الماضي. الخلاصة أن مصرف ليبيا المركزي يرى أنه يحتاج إلى ما لا يقل عن 18 مليار دولار لتغطية المصروفات الأساسية عند سعر الصرف الحالي.
كان المقترح المقدم من لجنة الخبراء الاقتصاديين الليبيين المنبثقة عن مؤتمر برلين هو توحيد سعر الصرف وتخفيضه تدريجياً على مدار سنة ونصف، ليكون في حدود ربما 3 دينار للدولار. ولكن ماحدث هو استخدام الدخل المرتفع نتيجة ارتفاع سعر الصرف لتمويل زيادة الميزانية، ونتيجة هذا هو إلغاء عملية تخفيض كمية الدينار الليبي بالقدر المطلوب سواء في شكل نقود أو أرصدة حسابات. فقد كان مقترح اللجنة مبني على تخفيض كمية الدينار الليبي يقابلها رفع في قيمة الدينار تدريجياً بحيث تزيد القوة الشرائية للمواطن تدريجياً مع توجيه أي زيادة للمرتبات للفئات الأقل دخلاً.
مما لا شك فيه أن زيادة المرتبات لاقت قبولاً واسعاً ولكن المشكلة الكامنة فيها هي أن المرتبات التي كانت 28 مليار دينار عند سعر صرف 1.4 للدولار لا بد أن تصبح أكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه (سعر الصرف الآن 4.80 للدولار أي أن الدولار ارتفع بمقدار 340٪، عليه المرتبات يجب أن ترتفع بنفس القدر لتحافظ على القدرة الشرائية، أي تصبح المرتبات 95.2 مليار دينار).
أيضاً لزيادة المرتبات أثر على الأسعار ليس من خلال سعر الدولار فقط ولكن من خلال السلع المحلية من منتجات غذائية وبعض الصناعات ومرتبات القطاع الخاص.
الخلاصة أن رفع المرتبات وإن كان إجراء مقبولا شعبياً إلا أنه في فترة وجيزة -ولأنه أبقى على سعر النقد الأجنبي مرتفعا وزاد من كمية الدينار الليبي الذي يلاحق كمية محدودة من الدولار- أدى في واقع الأمر إلى انخفاض متوسط القوة الشرائية للمواطن بمقدار النصف على الأقل.
تزامنت هذه الإجراءات مع ارتفاع الأسعار دولياً عقب جائحة كورونا التي تلتها حرب روسيا على أوكرانيا، ولهذا، القوة الشرائية للمواطن انخفضت إلى أقل من النصف بكثير.
لقد كان تخفيض سعر الصرف هو الطريقة الأفضل لحماية القوة الشرائية للمواطن ومواجهة زيادة أسعار البضائع الموردة إلى ليبيا بالنقد الأجنبي التي أيضاً انعكست في زيادة السلع المحلية. ونتيجة طبيعية لانخفاض القوة الشرائية للمواطن انخفض الطلب على السلع الموردة والمنتجة محلياً.
أكثر المواطنين استنزفوا مذخراتهم خلال السنوات الماضية واستخدموها في تغطية حاجاتهم وأصبحوا بالكاد قادرين على توفير الغذاء لأسرهم، فآخر همهم هو شراء الكماليات. لهذا أصبحت أغلب السلع لا تلاقي طلباً عليها مما نقل الظروف الاقتصادية الصعبة للموظفين إلى جزء كبير من القطاع الخاص.
للأسف السياسات الاقتصادية الخاطئة آثارها عميقة وعلاجها صعب. أمامنا مثال فنزويلا التي تتمتع بأعلى احتياطي نفط في العام اتبعت في زمن تشافيز سياسات اقتصادية مشابهة لما نراه في ليبيا نتج عنها انخفاض متوسط دخل الفرد من 14000 دولار للفرد سنوياً إلى 600 دولار، وأصبح الفقر شائعا في دولة غنية بالموارد الطبيعية. ليبيا في حاجة لحكومة تدرك أهمية الاقتصاد وأن قوة الدولة نابعة من قدرة شعبها على الإنتاج واقتصادها المتين.