قصتي مع أبو خليل (الحلقة الأخيرة)
” …. قمت بإغلاق المحل ثم بيعه.. بالطبع كان سعر البيع أقل من نصف سعر الشراء.. فأنا أبيع مضطرا وفي العرف التجاري لا بد لي من تحمل تكلفة ذلك.. أصبحت مرة أخرى بلا عمل.. وكان لي أن أعاني مع الفراغ لأشهر..
* كتب/ عطية الأوجلي،
حاولت مواساة نفسي بالاندماج مع الجالية الفلسطينية في شيكاغو… صرت اتردد على المطاعم والمقاهي العربية، وأتردد على نادي للجالية هناك حتى أنسى همومي.. كانت الجالية نشطة تجاريا وتعليميا وسياسيا.. تعرفت في فترة وجيزة على أساتذة جامعات وأطباء، وعلى أصحاب محلات تجارية، وسمعت العديد من قصص الهجرة والكفاح.. كانت هناك صور جميلة.. كما كان هناك قبح.. ككل مجتمع إنساني لا بد من تنوع وتعدد المشاهد فيه …”
” حاولت أن أنشر بين جميع من قابلت رغبتي في العمل، أو بدأ مشروعا تجاريا جديدا.. كانت هناك أفكار ووعود لكن لم تثمر عن شيء.. حتى جاء ذلك اليوم عندما أتاني أبوصلاح.. أحد أصدقائي.. وقال لي بلهجته النابلسية المميزة.. “أبشر يا أبوخليل.. هناك صديق لي يملك مزرعة كبيرة في كاليفورنيا ويبحث عن شخص يتولى الإشراف عليها وإدارتها”.. وأنه -أي أبوصلاح- قد أخبره بأنني الشخص المناسب لذلك، ليس فقط لأنني مزارع بل وأتحدث اللغة الإسبانية، مما يجعل من إدارتي للعمال المكسيكيين الذين يعملون بالمزرعة أمرا ممكنا.. كما أخبرني بأن علينا الذهاب إلى مقابلة صاحب المزرعة والتفاهم معه”.
” … التقيت بالرجل في منزله بإحدى ضواحي شيكاغو.. كان من الجيل الثاني من المهاجرين الفلسطينيين.. ترجع أصوله إلى أسرة مسيحية من القدس ..كان “جورج” أمريكي المولد والتعليم والثقافة، ولكن بنكهة فلسطينية واضحة.. رحب بي ترحيبا طيبا.. ولكن عندما تطرقنا إلى العمل.. تحدث كرجل أعمال.. حدد لي ما هو المطلوب والمتوقع مني.. مسئولياتي ومميزات العمل.. ستعجبك البيئة هناك.. هكذا قال.. الطقس مقارب لبلادنا وأرحم من صقيع شيكاغو.. وهناك بيت يمكنك استخدامه وهو جاهز بالكامل، وبإمكانك أن تحضر عائلتك وسأساعدك في ذلك.. فأنا أؤمن أنه كلما شعر من يعمل معي بالاستقرار كلما ازداد عطاؤه وحرصه في العمل.. وبعد نقاش قصير.. أخبرني أنه في بداية الأسبوع القادم سنوقع العقد وسنسافر معا إلى منطقة “اسكنديدو” بكاليفورنيا.. وهذا ما تم”.
” … فوجئت عند وصولي هناك بحجم المزرعة ومساحتها.. شتان بينها وبين ما عهدناه في فلسطين.. هنا أراضي شاسعة أتجول فيها بالسيارة، وهناك عشرات العمال.. كل شيء محسوب بدقة.. المشتريات من البذور والمبيدات والأسمدة، إلى كميات المياه والري.. إلى البيع والنقليات.. العمال كلهم من أمريكا اللاتينية.. أغلبهم من المكسيك، والباقي من الهندوراس والأكوادور وكولومبيا…. هم يتسللون عبر الحدود في رحلة مخاطرها كثيرة.. لكنها لقمة العيش”..
” … لعل أجمل أيام حياتي كان ذلك اليوم الذي أتت فيه زوجتي وابني وابنتي.. سنوات مرت لم نلتق فيها ولم نعرف متى وكيف وأين سيكون اللقاء.. كم أنت عطوف بنا يا الله.. حمدت الله كثيرا.. وتساءلت بيني وبين نفسي عن سر كرمه معي.. لم أجد سوى إجابتين.. صدقي مع الناس ورضا الوالدين “.
” … بذلت كل جهدي لتعلم كل ما يمكنني تعلمه عن الإدارة والمحاسبة وعن العلاقات مع الموردين والسماسرة.. كان هناك آخرين يتولون هذه المهام، ولكني أحسست أنه لا يمكن أن تدير شخصا أنت لا تعرف أبجديات عمله.. كما ركزت على تطوير لغتي الإنجليزية..
بالنسبة لابني وابنتي فقد أخبرتهم بكل صراحة عما أتوقعه منهم.. قلت لهم إننا نعيش في مجتمع مفتوح على كل التيارات، وإنها مسئوليتنا أن نحسن الاختيار.. لا يمكن النجاة وسط هذه التيارات إلا بالإرادة الصلبة.. وضوح الهدف والتضحية من أجله.. ما هو هدفكم الآن؟.. هو التفوق في الدراسة وفي الأخلاق… قلت لهم أنتم الآن لستم أبنائي بل جنود في كتيبتي.. أتوقع وأريد منكم طاعة تامة حتى نيلكم الشهادة، عندها أكون قد أديت دوري، وأكون قد منحتكم ما أستطيع.. ولكم الخيار آنذاك”..
توقف أبو خليل عن الحديث.. كنا بحاجة إلى لحظات صمت… انشغل كل منا بالتفكير فيما قيل..
أطلقت العنان لذهني ليتأمل… فقد قطعنا هذه الليلة الآلاف من الأميال والعشرات من السنين.. قطع الصمت علينا قدوم سفرة الحلويات والشاي.. تحدثنا في أمور شتى.. وأخيرا.. استأذنته في الخروج.. ألح علي للبقاء.. لكني اعتذرت واتفقنا على لقاء آخر وموعد آخر .
غادرت المنزل.. قدت سيارتي متجها جنوبا نحو بيتي.. في الطريق كان ذهني لا زال يتأمل ما سمعت.. يتوقف لحظات عند مسيرة هذا الرجل.. الضفة.. مناجوا.. شيكاغو.. اسكنديدو.. فجأة خطرت في ذهني فكرة.. ماذا لو أنني التقيت هذا الرجل في صباه.. وقلت له.. إن إسرائيل ستحتل الضفة، وستقوم بطردك من بيتك وتفرق بينك وبين زوجتك وأطفالك.. وأنك ستذهب إلى بلد اسمه نيكاراغوا.. وسينتهي المطاف بأطفالك للدراسة في جامعة أمريكية.. أتخيل ردة فعله.. وهو ينظر بريبة لي.. ويهمس لنفسه.. هذا الرجل.. أمشعوذ هو؟.. أم به مس من الجن و لوثة عقلية!.. فما أقل ما نعرف عن هذه الحياة رغم ادعائنا بغير ذلك … !!!!