السر لم يعد طي الكتمان
*كتب/ ياسين ياسين
كان من شروط منح حق الامتياز للتنقيب عن النفط في ليبيا إلزام الشركة التي تعثر على النفط بكميات تجارية بأن تقدم مشروعاً إنتاجيا بدون مقابل كهدية من الشركة للشعب الليبي .
وكنت حينها أعمل بمنصب تنفيذي بشركة أسو ليبيا فقامت الشركة في هذا الإطار ببناء أول مصفاة لتكرير النفط في البريقة على حسابها.. وقد حذت حذوها شركة أوكسي (أوكسيدنتال) بعد أن اكتشفت النفط في حقل السرير بالإضافة إلى اكتشافها لكميات ضخمة من المياه الجوفية، فقامت بمشروع زراعي ضخم للإنتاج الحيواني في الكفرة والسرير وتازربو واستوردت عدداً كبيراً من آلات الري الدائري (Pivot) وزرعت كمية كبيرة من نبات البرسيم الجيد (Alfalfa) وكذلك استوردت عدداً كبيرا من الخرفان من استراليا وأذكر انه كان من ضمن المسئولين على هذا البرنامج المهندس “محمد كاره”.. وكانت النتيجة مبهرة للغاية إذ كان الخروف سمينا جدا وتفوق الشحم على اللحم.
في هذه الأثناء كلفت أوكسي شركة استشارية كبرى من الولايات المتحدة تدعى (تبتون اند كالمباك) بإجراء دراسة عن مدى ما يحويه هذا الحوض الجوفي (Aquifier) من المياه وكانت النتيجة أن الشركة الاستشارية قدمت تقريرها في ثلاثة مجلدات ضخمة تقول فيه ما خلاصته أن كميات المياه في هذا الحوض الجوفي يعادل مايصبه نهر النيل في مائتين من السنين.. ويغطي مساحات هائلة تشمل أراضي في كل من ليبيا ومصر والسودان.. و قد أوصت الشركة باستغلال هذه المياه وذلك بإحدى هذه الطرق: إما بنقل المياه عبر أنابيب إلى المناطق الساحلية لخصوبة التربة فيها وسهولة نقل محصولاتها الزراعية، وإما إقامة مشروعات كبيرة في نفس مواقع الإنتاج والتركيز على المحصولات ذات القيمة العالية مثل تربية المواشي للتقليل من سعر النقل فكيلو اللحم أكثر سعرا من كيلو القمح أو الشعير أو الفواكه بأنواعها .
وبعد انقلاب ٦٩ رأى الجهابذة نزع هذا المشروع من شركة أوكسيدنتال وإسناده إلى وزارة الزراعة التي كان وزيرها المهندس القدير “عبدالمجيد القعود”.. وكان لذلك الإجراء الأهبل فرحة عمت شركة أوكسي فقد تخلصوا من عبء كانوا ملزمين به حسب عقد الامتياز .
أوجدتني الصدف والظروف أن أكون شاهدا على ما حدث في مناسبات مختلفة.. فأولا جاءني المستر كوكران مدير النقليات بشكة اسو ليبيا يريدني في اجتماع خاص وسري للغاية ليبلغني أن شركة أوكسيدنتال قد اكتشفت منبعا كبيرا جدا للمياه العذبة ونصحني بشراء أكبر مساحة من الأرض يقدر بآلاف الهكتارات، وأن أقوم بالمشاركة معه في استغلالها زراعيا فقلت له أن هذا قد يحدث في أمريكا أما في ليبيا فالقانون يختلف لأن الصحراء وما في باطنها ملك للدولة الليبية.. وثانيا جاءني رئيس الشركة الاستشارية تبتون وكالمباك بناء على نصيحة من طيب الذكر الحاج “محمد بن علي” رجل الأعمال المعروف وقال له إن لم يستطع ياسين أن يحل مشكلتك فلا أحد غيره يستطيع.. هكذا قدم نفسه لي.. فقلت له خير إن شاء الله يبدوا أن ثقة الحاج “محمد بن علي” في شخصي كبيرة وهو رجل أعمال كبير يفوقني خبرة وذكاء.. قلت له سأبذل جهدي من أجل صديقي الحاج “محمد بن علي” فسلمني نسخة من المجلدات الثلاثة .
ذهبت إلى المهندس عبدالمجيد القعود وأبلغته بطلبات الشركة وحقوقها فقال خلي شركة اوكسي التي كلفتهم بإجراء الدراسة تدفع لهم.. فقلت كيف تدفع وقد آل الموضوع برمته إلى وزارتكم فأنتم أصبحتم مسؤولون عن ثمة مواضيع.. ومع أن المهندس “القعود” سريع الانفعال والغضب غير أنه كان متسامحا معي ربما لمعرفتي بشقيقه الأكبر “الهادي القعود” وزير المالية في العهد الملكي.. وأخيراً انفض الاجتماع على لاشيء، وتمسك ألا يدفع للشركة ما تبقى لديهم من حساب.. فأبلغت الحاج بن علي بما تم وقلت له هذه حكومة نصب واحتيال.
اتضح لي فيما بعد أن المهندس القعود إنما فعل ذلك ليتمكن من أن ينسب ذلك كله لسيده مهندس النهر الصناعي العظيم وتولى هو مهمة الإشراف على هذا المشروع ليظل السر طيّ الكتمان.