
* كتب/ عبدالوهاب الحداد،
ظل الاعتقاد السائد لسنوات طويلة يربط بين لون “الطاقية” والانتماء الجغرافي في ليبيا؛ فاللون الأحمر يميز سكان الشرق، بينما الأسود هو السمة الغالبة على أهل الغرب. هذه الثنائية اللونية، التي بدت كعلامة فارقة للهُوية “الإقليمية” المحلية، تخفي وراءها تاريخًا مشتركًا وأسئلة حول زمن وكيفية هذا الانقسام.
قادني الفضول حول “طواقينا” إلى بعض المعلومات التاريخية، بدأت مع أبيات للشاعر المجاهد علي بن حسن (1876 – 1953)، ففي إحدى قصائده التي يصف فيها حالة فاقد الصبر، يقول:
اللِّي مَا صَبَر وْلَا حَسَب حْسَابَه ** يَنْدَم وْيَصْبَح فِي كَدَر وْغُنَّة
لاَوْ بْشَمَسْتَه لَا هُو وَلَد بِنْقَابَه ** العَين خَاجْلَة وَالوَجَه كِيفْ “الشَنَّة”
للوهلة الأولى، قد يظن القارئ أن الشاعر يشبه وجه من لا يصبر على أهوال الزمان بـ “الشنَّة السوداء” المعروفة اليوم، إلا أن بيتا آخر للشاعر، يهجو فيه نفسه تذللاً بين يدي الله، كشف دلالة الكلمة والمعنى:
بـ الدَّال دَاير دِير مَا مِنَّاش ** لَا بْزَادْ قَدَّمْتُ وْلَا بِفْرَاش
ضَيَّعَتْ عُمْري بْقُول يَا مَنْ عَاش ** لِينْ بَادَتْ “القُرْمَز” وْوَّلَّتْ “شَنَّة”
هنا، استخدم الشاعر تحوّل لون “القرمز” إلى “شنَّة” كرمز لمضي سني عمره، و”القرمز” هو لون الطاقية الأحمر الداكن، وأن “الشنَّة” كانت لفظًا يُطلق على “الطاقية الحمراء والقرمزية” بعد أن تَبلى ويبهت لونها الأصلي.
هذا التأويل يدعمه ما ورد في كتاب “ألبسة على مشجب التراث” للأستاذ سالم شلابي، وكتاب “معجم من فصيح العامة ودخيله” للأستاذ خيري السراج، حيث يُذكران أن لفظ “الشنَّة” فصيح ويطلق على القربة إذا يبست، وفي لسان العرب، المرأة الشنَّة هي العجوز المسنة البالية.
بناءً على ذلك، يتأكد أنه حتى منتصف القرن الماضي على الأقل (تاريخ كتابة الأبيات)، لم تكن هناك “طاقية” سوداء في ليبيا، وأن الليبيين جميعًا كانت “طواقيهم” حمراء بدرجات متعددة.
هنا يبرز التساؤل: متى أصبحت لليبيين “طواقي” سوداء؟ ولماذا استقرت في غرب البلاد دون شرقها، حتى أصبحت اليوم علامة على الانتماء الجغرافي والعرقي!
الإجابة الوحيدة المتوفرة حاليًا قدمها محمد عقيلة العمامي في مقالة نقل فيها عن الدكتور علي عتيقة قوله: إن القذافي تعاقد في مرة مع مصنع بتونس لصنع “طواقي” لليبيين، على أن يكون لونها أخضر، لا أحمر. وما أن أصبحت “الطواقي” الخضراء جاهزة، دخل النظام الليبي في قطيعة طويلة مع الدولة التونسية، فتكدست “طواقي” الليبيين الخضراء بمخازن المصنع التونسي، وكان عليهم التصرف فيها، فلم تجد وسيلة لذلك إلا تغيير لونها إلى الأسود، فهو الأنسب لإخفاء اللون الأخضر، وهو ما كان، لتجد طريقها بعد ذلك إلى ليبيا.
وبغض النظر عن مدى واقعية أو طرافة هذه المعلومة، فإن نظام القذافي كانت له تدخلات معروفة في ملابس الليبيين، ومنها أنه استبدل “الزمالة” أو العمامة البيضاء ذات مرة بالخضراء ليستعرض بها “الشعب المسلح”، كما أذكر تلك الحملة التي شنت على ربطة العنق “القرواطة، ولعل أبناء جيلي يذكرون المونولوج الغنائي الشهير “خانق روحه بالقرواطة ناسي مصدرها بعباطة”، كما يذكرون كيف كانت مذيعات نشرة الأخبار في التلفزيون الرسمي تظهر مرتدية “الردي” والمذيع بـ “الجرد والشنَّة”.
وإن كان كل ما سبق تاريخ مضى، فإنه من المؤسف أن تبقى “طواقي” الليبيين و”شنَّاتهم” بلونيها الأحمر والأسود، (تبقى) قرينة يستدل بها البعض، ومنهم مثقفون، على الانقسام الليبي، وهو أمر تتورط فيه حتى بعض الأعمال الدرامية التلفزيونية، وكأنه لا ينقصنا من ملامح الانقسام إلا “طواقينا”.



