
الناس-
في قلب المياه الدولية من البحر الأبيض المتوسط، وعلى متن سفينة “عمر المختار” المبحرة من طرابلس حاملة الراية الليبية لكسر الحصار عن غزة، وقف العم الصيد الشريف، الذي أفنى نصف قرن في أعالي البحار، في غرفة القيادة..
عيناه تحملان هدوء الموج وخبرة العمر..
عبر مكالمة هاتفية، ظهر على الشاشة ابنه محمد، وبجواره الأحفاد يلوّحون ببراءة ودهشة..
ابتسم، ثم قال بصوت عميق وواثق:
“يا محمد… هذا عمل إنساني وتاريخي. لا رجوع.”
“قل لحفيدي إن جده مشى على درب عمر المختار، ولو من البحر.”
ارتجفت شفتا محمد، وتعلقت العيون بوجه الجدّ، قبل أن تُغلق المكالمة.
في الخارج، كانت السفينة تتقدّم بهدوء نحو وجهتها.
نحو غزة… بثبات الجبال، وصمود عمر المختار، وقيادة الشيخ الصيد الشارف..
حين مالت الشمس للغروب في الحادي والعشرين من سبتمبر أبحرت “عمر المختار” من مرافئ العاصمة طرابلس.. عليها ستة عشر..
اليوم الأول. في مرفأ طرابلس
الساعة 8:30 من مساء يوم الأحد (21 سبتمبر 2025م)، وسط الدعوات بأمل فك الحصار عن غزة.. والتوديع من جموع الناس.. الذين انتبهوا لصافرات مركبتين لخفر السواحل بميناء طرابلس.. والتي أعطت الإذن لسفينة عمر المختار بالانطلاق في رحلتها القاصدة شواطئ غزة.. فأنهيت اجراءات جوازات السفر.. وتم توديع الأخوة: د. محمد الحداد.. وأ.هاني محمود.
وانطلقت السفينة بمحاذاة الساحل الليبي، باتجاه مدينة الخمس للتزود بالوقود..
اليوم الثاني.. رفض المساومات
الأحوال الجوية مثالية للإبحار.. فقد هدأت الرياح التي تسببت في وقوع أعطال لبعض القطع البحرية التابعة لأسطول الصمود العالمي.. فوصل أغلبها نحو السواحل الجنوبية لجزيرة سيشليا الإيطالية.. لإصلاح ما بها من أعطال.. والاطمئنان على سلامة من فيها.
اتضح أن عددا من القطع الصغيرة تعاني من نقص الوقود، وقد طلب بعضها العون من سفينة عمر المختار.. وهذا ما دفع السفينة للذهاب إلى مدينة الخمس.
احتفت الخمس بقدوم المختار إلى مينائها.. وقدم أحد رجال الأعمال بها وجبة الغداء إلى كامل من على السفينة.. كما زارها عدد من النشطاء المدنيين للاطمئنان والتضامن..
بعد ملء الخزانات وعلى تمام الساعة 10:30 مساءً بتوقيت ليبيا.. انطلقت السفينة.. في أجواء هادئة ومستقرة..
وتم تفعيل برنامج التتبع للرحلة..
كان الاحتلال قد عرض على الأسطول استلام المساعدات وإيصالها إلى غزة. لكن عمر المختار رفضت. وكل من في الأسطول..
اليوم الثالث. اعتداء بالمسيرات
في تلك الليلة، تعرضت سفن من الأسطول لاعتداءات متكررة بالطائرات المسيّرة والمقذوفات، وهي سفن، أوهوايلا، يولارا، أوتاريا، ماريا كريستينا، سلفاجيا، مورغانا، زيفيرو، هيو، تايغيت، ولونابارك، والأغلب أنها كانت قنابل صوتية ولم تؤد لخسائر..
كما رُصد تشغيل جهاز للتشويش، سيكون مؤثرا لاحقا في رحلة المختار.
استمرت الرحلة سائرة في يومها الثالث، ومع ظهر الاثنين تسببت الحرارة المرتفعة لماسورة العادم بحدوث تفحم بسقف السفينة، فاستخدمت مجموعة الطوارئ اسطوانات الإطفاء التي تدربت عليها قبل الإبحار على أيدي هيئة السلامة المدينة بطرابلس.
في المساء افتتح كل من سعد المغربي ونبيل السوكني، برنامجا تثقيفيا اتفق أن يستمر.. ما استمرت الرحلة.
اليوم الرابع. صافرات إنذار..
في صباح اليوم الرابع.. كانت السفينة تواصل سيرها بسلام في بحر هادئ.. وبعد وجبة إفطار جماعية.. تفضلت الصحفية البريطانية “إيفون” بتقديم محاضرة عن الإجراءات الوقائية المتبعة في حال اقتحام القوات المعادية للسفينة.
ومع حلول التاسعة ظهرت في محيط السفينة قطع بحرية عسكرية ومدنية. ولم تغادر حتى العصر. ثم بعد العشاء لوحظ وجود طائرات مسيرة تقترب من السفينة.. وكانت هناك قطعتين بحريتين تسير بمحاذاتها.
أطلقت سفينة عمر المختار صافرات الإنذار، فهرع كل الركاب للسطح مرتدين لسترات النجاة.. وبعد ترقب اختفت الطائرات كما جاءت.
اتضح لدى طاقم السفينة أن نظام تحديد المواقع بها تعرض للتشويش، فأظهرها على الخارطة في مواجهة استراليا.. كما أصيبت كاميرات التصوير بقطع في تصويرها الثابت.
اليوم الخامس. حادث عرضي
بدأت الرياح بعد منتصف ليل الأربعاء في الارتفاع.. وسبب ذلك في ارتفاع الأمواج (2- 3 متر).. لذلك أبطأ القبطان: “مصطفى بشنب” سرعة السفينة حتى وصلت إلى (5 عقدة بحرية)..
ومع شروق شمس الخميس استعيدت السيطرة على نظام تحديد المواقع وعلى كافة الأجهزة الإلكترونية بالسفينة.
الخميس أيضا.. اضطربت الرياح أكثر، وتعرضت الصحفية ايفون لرضوض في رأسها بسبب فقدان توازنها داخل غرفتها نتيجة حركة السفينة المفاجئة بسبب الأمواج.. وقد أسرع الطاقم الطبي برئاسة د. عبدالرحمن احميد لها.. واطمأن الجميع على سلامتها بعدما شاهدوها وهي تحييهم..
زاد اضطراب الأمواج بعد مغيب الشمس.. وعند منتصف الليل وصلت السفينة إلى محيط جزيرة يونانية.. واستمرت في مسيرها لملاقاة باقي قطع الأسطول.
اليوم السادس. الالتحام بالأسطول
فجر الجمعة 26 سبتمبر رست سفينة عمر المختار قبالة إحدى جزر كريت، احتماءً من العاصفة القادمة، في نفس الوقت تلقت نداء عاجلا من سفينة “اسيا” التي تحمل 12 جزائريا، بعد تعطل محركها. وتزايد الأحوال الجوية سوءا. فتم تحديد موقعها بدقة.
وبينما السفينة لا تزال تتهادى في مرساها.. مرت طائرة حربية في السماء..
أكد خبير التتبع لحركة الطيران “طه حديد” أنها طائرة مسيرة تابعة لخفر السواحل اليوناني حلقت بالقرب من تواجد سفن أسطول الصمود، وهي “إسرائيلية” الصنع نوع IAI Heron UAV رقم التسجيل UC-02
على ظهر السفينة عمر المختار.. أقيمت شعائر صلاة الجمعة..
عقد الركاب العزم على مواصلة المسير رغم صعوبة الطقس. فانطلقت السفينة بسرعة تصل حتى 8 عقدة بحرية بموازاة الساحل الجنوبي لجزيرة كريت.. وبعد (نصف ساعة) بدأت الرياح تشتد بشكل عنيف.. مما تسبب في إنقاص السرعة حتى 5 عقدة بحرية.. ولم تمض أربع ساعات حتى كانت السفينة تُبحر في بحر هادئ.. بعدما لفها غروب شمس تختفي خلف الأفق..
على تمام الساعة 10:00 ليلاً.. كانت السفينة قد وصلت إلى المرسى الذي تحتمي به أغلب القطع البحرية القاصدة كسر الحصار عن غزة وهناك أطلقت صافرتها.. فانتبهت كل القطع التابعة للأسطول.. لقدوم (سفينة عمر المختار) الليبية.. فأطلقت الهتافات لأجل أن تكون (فلسطين حرة) باللغات العربية والإنجليزية.. والتي هتفت بها حناجر المناضلين والمناضلات معاً..
اليوم السابع. الإبحار صوب غزة
في السابع والعشرين من سبتمبر حلقت طائرة نوع Boeing P-8 Poseidon تابعة للبحرية الأمريكية نوع تحلق فوق أسطول الصمود المتجه إلى غزة.
الطائرة وفق “طه حديد” عسكرية قادرة على القيام بمهام الحرب المضادة للغواصات والسطح، وقادرة على الإنذار المبكر للحماية الذاتية، ولها القدرة على حمل الطوربيدات وقذائف الأعماق وصواريخ هاربون المضادة للسفن، كما أنها قادرة على إسقاط ورصد عوامات صوتية، وهي مصممة للعمل لمراقبة منطقة بحرية واسعة”.
يشار في هذا السياق إلى أن إيطاليا وإسبانيا أعلنتا دعمهما لأسطول الصمود بسفينتين حربيتين بعد تعرّضه لهجمات من طيران دولة الاحتلال.
فما الذي كتبه قلم سفينة عمر المختار عن هذا اليوم؟
“سطعت شمس يوم السبت لتكشف لنا منظراً مؤثراً.. حيث كانت أكثر من 35 قطعة بحرية.. تابعة (لأسطول الصمود العالمي) و(الأسطول المغاربي) ومعهم (سفينة عمر المختار).. تربض بأحجامها المختلفة وألوانها البراقة.. في مشهد يمثل وجود أكبر تجمع لأسطول بحري (سلمي وإنساني).. لأول مرة في تاريخ البحر الأبيض المتوسط.
قامت السلطات البحرية اليونانية بتحية طاقم سفينة عمر المختار، بعد التحقق من هويتها.. لتؤكد على شرعية الإجراءات الرسمية للسفينة بكل تفاصيلها.
بدأت الأخبار تعلن عن انطلاق 10 قطع بحرية من إيطاليا باتجاه غزة.. حيث أعلن ائتلاف “أسطول الحرية” وحركة “ألف مادلين إلى غزة”، عن انطلاق أسطول جديد يضم عشرة قوارب من ميناء “سان جيوفاني لي كوتي”.. بجزيرة صقلية الإيطالية.. في محاولة جديدة لكسر الحصار عن غزة.
يشارك في الأسطول الذي أبحر من إيطاليا نحو 70 ناشطاً.. من أكثر من 20 جنسية مختلفة.. بينهم برلمانيون من بلجيكا.. والدنمارك.. وإيرلندا.. وفرنسا.. وإسبانيا.. والولايات المتحدة الأميركية.. ينقلون “أصوات ناخبيهم ورسالة التضامن مع الشعب الفلسطيني”.
بعد الغروب.. بدأت قطع الأسطول الشراعية في التحرك واحدة إثر أخرى.. استعداداً للإبحار صوب غزة..
وللإبحار بقية..