المقدمة الأولى
تأتي أهمية ذكريات وهبي البوري من معاصرته لكبريات الأحداث التي عاشها بدءا من الاحتلال الإيطالي لليبيا ومرورا بالعهد الملكي وانتهاء بعهد نظام القذافي.
ولد البوري عام 1916 وتوفي عام 2010، وشغل في العهد الملكي منصب وزير الخارجية ومندوبا لليبيا لدى الأمم المتحدة، وهو إحدى الشخصيات الليبية القليلة التي تلقت تعليما وافرا، وكان شاهدا على محطات سياسية مفصلية في تاريخ ليبيا السياسي المعاصر.
المقدمة الثانية
هذا الملخص يغطي الصفحات من ثلاثين إلى خمسين من كتاب ذكريات حياتي لمؤلفه وهبي البوري، وهي تسلط الضوء على مرحلة من حياة المؤلف المتقلبة، وعلاقته بمفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني الذي كان يعول كثيرا على دول المحور (ألمانيا وإيطاليا) لتحرير فلسطين، بينما البوري وأمثاله من الليبيين يعولون على انتصار الحلفاء لتحرير ليبيا من الاحتلال الإيطالي، إلا أن الضرورة أو إكراهات الواقع فرضت التعاون بين الرجلين، حيث عمل البوري في فترة الحرب العالمية الثانية ضمن دائرة المفتي المقربة.
* عرض / هشام الشلوي
ويتضح من شهادة البوري العقلية العربية التنافسية حتى في قضايا المصير المشترك، إذ يشير البوري في غير لبس إلى التنافس المحموم بين مفتي فلسطين وبين رئيس وزراء العراق الأسبق رشيد عالي الكيلاني، والذي أدارته الدعاية الألمانية لصالحها، من حيث إن للرجلين أنصارا وجمهورا في العالم العربي.
أعي أن القراءة قد تكون مرهقة للبعض ممن ألف قراءة الأسطر القليلة على مواقع التواصل الاجتماعي أو اعتاد على الثقافة البصرية، وحيث إني لا أعلم موقعا يمكن أن ينشر هذا التلخيص بتصرف، فمضطر إلى نشره على صفحتي بالفيسبوك، والله من وراء القصد.
البدايات
يقول وهبي البوري في مذكراته (ذكريات حياتي) إن وزارة الخارجية الإيطالية طلبت من نائب والي بنغازي الكونت ديلا بورتا ترشيح أحد الليبيين لتدريس اللغة العربية في مدينة طنجة المغربية، التي كانت تخضع وقتها لإدارة دولية تتناوب عليها بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، بينما يخضع المغاربة من سكانها لسلطان البلاد
وسافر البوري إلى طنجة في ديسمبر من عام 1939 بطريق البحر، ومكث فيها حتى العاشر من يونيو عام 1940 بعد إنذار القنصلية الإيطالية إثر اجتياح هتلر لأوروبا وقرب إعلان موسوليني دخول الحرب إلى جانب ألمانيا. ليقيم البوري في روما قرابة ثلاث سنوات.
إرهاصات
يذكر البوري أنه عندما كان جالسا في أحد مقاهي روما سمع اثنين يتحدثان العربية، فاقترب منهما، ووجدهما من أعوان مفتي فلسطين الشيخ أمين الحسيني، وكان من بين هذين الشخصين سليم الحسيني ابن عم المفتي والذي طلب من البوري زيارة المفتي.
صورة قلمية
رسم البوري صورة لمفتي فلسطين أمين الحسيني بأنه كان “رجلا مهيبا، ذكيا، متكلما، وسياسيا بارعا” ص 39 وأنه “نشط وذكي وملّم بأحداث العالم” ص 44.
وبدأ تعاون البوري والمفتي بطلب من الأخير بالترجمة وأعمال أخرى في إذاعة الأمة العربية التي أنشأها الفلسطينيون في إيطاليا للتحريض على عدوتهم بريطانيا. وكان كل طاقم العمل في الإذاعة من الفلسطينيين الذين كانوا يعبرون عن وجهات نظر أمين الحسيني.
حاول الحسيني أن ينزع من إيطاليا اعترافا باستقلال البلاد العربية، إلا أن إيطاليا موسوليني لم تكن تفكر مطلقا في التنازل عن تلك الدول وعن البحر الأبيض المتوسط، وأن موسوليني عمل على استغلال الزعماء العرب المقيمين في إيطاليا لتقوية نفوذ روما في العالم العربي، وأن ذلك لم يكن بخافٍ على أمين الحسيني الذي سافر إلى ألمانيا كونها أكثر استعداد لتفهم مشاكل العرب ومساعدتهم.
شكوك وواقعة
يقول البوري إن شكوك وزارة المستعمرات الإيطالية بدأت حوله بصفته الليبي الوحيد المتصل بمفتي فلسطين، وإن فتاة تعمل في مكتب وكيل الوزارة أخبرته أن رسالة وصلت من وزارة المستعمرات تطلب سحب البوري من العمل لدى المفتي وإبعاده عن روما، وأن ذلك لا يعني إلا اعتقال البوري.
وسبب ذلك يرجع إلى أن البوري أثناء عمله في إذاعة الأمة العربية كتب مقالا عن استقلال البلاد العربية بعد الحرب ومن بينها ليبيا، مما أثار حفيظة وزارة المستعمرات.
أخبر البوري المفتي بالواقعة، فكتب رسالة إلى وزارة الخارجية يطلب فيها تعيين البوري لديه، لترجمة بعض الوثائق الهامة.
أما عن الواقعة؛ فيروي البوري أنه بعد وصول قوات القائد الألماني إرفين رومل إلى العلمين، حاول المفتي تكوين قوة عسكرية من الشباب الفلسطيني والعربي المقيم في روما للمشاركة في معركة الشرق الأوسط الأخيرة، إلا أن عدم توفر العدد الكافي وضعف الرغبة في التطوع حالا دون تشكيل هذه القوة.
المفتي أمين الحسيني طلب من البوري استطلاع رأي محمود المنتصر الذي كان وقتها في روما، في تشكيل قوة من الليبيين للمشاركة في القتال، وأن المنتصر رفض الفكرة رفضا قاطعا. المنتصر قال للبوري إنه سيشاور الكابتن خليفة خالد الضابط في الجيش الإيطالي، والذي قاد فريقا من القوات الليبية في معركة احتلال الحبشة، وأن الكابتن خليفة خالد طلب من المنتصر والبوري نصح المفتي بالإقلاع عن هذه الفكرة، لأنه لن يتطوع ليبي واحد تحت راية إيطاليا.
الكابتن خليفة خالد تعلل بأن الفرقة الليبية التي شاركت إيطاليا في احتلال الحبشة، بعد عودتها لم تعوض إيطاليا أهالي القتلى ولم تمنح المعوقين منهم معاشات مناسبة.
عرض البوري هذه النصيحة على المفتي، فسكت، ولا يدري البوري إن كانت هذه فكرة من بنيات أفكار الحسيني أم بإيعاز إيطالي.
ويرد البوري على حجة المفتي بأن مشاركة الليبيين إلى جانب إيطاليا ستعطيهم الحق في المطالبة بالاستقلال، بأن 80 ألف جندي ليبي شاركوا في معركة سيدي براني إلى جانب إيطاليا التي انهزمت فيها القوت الإيطالية على يد الإنجليز، وقُتل وجُرح من الليبيين الكثير، دون أن تجازيهم روما بشيء يذكر.
افتراق المصالح الفلسطينية الليبية
يروي البوري أن أمين الحسيني دعاه ومحمود المنتصر للغداء في بيته أول سبتمبر عام 1943، بحضور أعوان ومقربين من مفتي فلسطين، وفي أثناء الغداء دق جرس الهاتف، وكان المتكلم من وزارة الخارجية الإيطالية، حيث أخبر المفتي ببدء هجوم رومل على العلمين، فهبّ الحاضرون فرحا واغتباطا ويقبلون بعضهم البعض ابتهاجا بهذا الحدث الذي في ظنهم سيوصلهم إلى فلسطين. وخرج البوري والمنتصر إلى حديقة البيت بوجوه مقطبة وحزينة، إذ أن انتصار ألمانيا وإيطاليا يعني فقدان ليبيا أي أمل في الاستقلال.
لحق المفتي بالبوري والمنتصر في الحديقة قائلا لهما: إنه يعلم شعورهما، فهو فرح لقرب تخليص فلسطين من الصهيونية وهما حزينان لفقدان الأمل في تحرير ليبيا. واستدرك المفتي للتخفيف عن البوري والمنتصر بأن عنصر المفاجأة حاضر بقوة في الحياة، فلربما حصلت ليبيا على استقلالها الذي يبدو بعيدا.
عمل البوري مع المفتي
بداية من شهر أبريل عام 1943 تدهورت أحوال إيطاليا العسكرية في شمال أفريقيا والبلقان، واحتل الحلفاء جزيرة صقلية وجنوبي إيطاليا، واضطربت أحوال روما، ثم جرّد مجلس الفاشست الأعلى موسوليني من صلاحياته وأودعوه السجن، وتولى المارشال بادوليو رئاسة الحكومة.
أخلّ الحلفاء باتفاقهم مع المارشال بادوليو الذي كان يقضي بتأجيل إعلان خروج إيطاليا من الحرب واستسلامها، حيث اشترط بادوليو عودة القوات الإيطالية من البلقان لتأمين البلاد قبل ذلك الإعلان، إلا أن الحلفاء أعلنوا استسلام إيطاليا قبل عودة القوات الإيطالية من البلقان، فاضطربت روما وغادر الملك والحكومة العاصمة إلى الجنوب خشية من انتقام الألمان، واحتلت ألمانيا شمال إيطاليا ووسطها وروما وأطلقوا سراح موسوليني وشكلوا له جمهورية اجتماعية في شمال إيطاليا، وانقسمت إيطاليا إلى شطرين، كل شطر يحتله غرباء.
قبل هذه الأحداث قرر مفتي فلسطين مغادرة إيطاليا إلى ألمانيا، ووصل البوري إليها في فبراير عام 1944 حيث تحولت ألمانيا في تلك الفترة من الدفاع إلى الهجوم. وأقام البوري مع صديقه سليم الحسيني ابن عم المفتي في فندق صغير بمنطقة أوبيين قرب مدينة سيتاو.
كان المفتي على اتصال بجهات عربية كثيرة وعلى اتصال بالحكومة الألمانية، وخلق من موقعه في ألمانيا مركزا يأتيه جميع عرب أوروبا المهتمين بالسياسة ومستقبل بلادهم.
أما رشيد عالي الكيلاني الذي كان يقيم في شمالي ألمانيا فقد كانت المنافسة بينه وبين أمين الحسيني شديدة، والخلاف والعداء بينهما مستفحل حول من تكون له أولوية تمثيل الأمة العربية، وظل الخلاف بينهما إلى نهاية الحرب، وكان الألمان يحاولون إرضاء الطرفين، لأن لكل منهما مكانته وأتباعه في البلاد العربية.
وكان الفلسطينيون الموجودين مع المفتي في ألمانيا لا يتجاوزون عشرة أشخاص، والعرب من حوله أكثر والذين كانوا يأتون إليه من أنحاء أوروبا.
مهمة في إيطاليا
طلب المفتي من البوري السفر إلى إيطاليا لقضاء بعض الحاجات والاطمئنان على بنت الملك فيصل ملك العراق، والتي فرّت من قصر أبيها مع خادم يوناني، فتوعدتها أسرتها بالقتل، إلا أن الحكومة الإيطالية استأجرت لها شقة في روما لا تعرفها إلا قلة.
المفتي خشي أن يصيب ابنة الملك فيصل سوء بعد أحداث إيطاليا وطلب من البوري الاطمئنان على أحوالها، وأوصلته وزارة الخارجية الإيطالية إلى سكن الأميرة فوجدها البوري في حالة مرضية وأن الحكومة الإيطالية تعتني بها.
وفي مدينة سيينا التقى البوري بعمر باشا الكيخيا وأخوه رشيد اللذين أبعدهما غرازياني عن ليبيا بعد توليه حكمها، ووجدهما في حالة طيبة.
ويقص علينا البوري أنه كان يسافر بين ألمانيا وإيطاليا ببطاقة عسكرية كان مفتي فلسطين اتفق مع الألمان على منحها لأعوانه تسهيلا عليهم في السفر.
بدرجة كابتن
يقول البوري إن وفدا من البوسنة اشتكى إلى مفتي فلسطين في لقاء بروما، تعرضهم على يد الشيوعيين وغيرهم إلى إبادة لكونهم مسلمين، فاتصل المفتي بالحكومة الألمانية طالبا منها مساعدة مسلمي البوسنة، واشترطت ألمانيا أن تجند من المسلمين فرقتين عسكريتين للمحافظة على المنطقة ضد الشيوعيين، وتكونت الفرقتان وحاربتا إلى جانب ألمانيا، وكانت البطاقات التي مُنحت لأعوان المفتي مُنحت لهم بصفتهم ضباطا في الفرقة الإسلامية، وكان وهبي البوري بدرجة كابتن في هذه القوة.
فراق
يروي البوري أنه في عام 1945 تحولت برلين إلى جحيم من قصف الحلفاء لها، وساءت الأحول وكان كل شيء على وشك الانهيار، إلا أن المفتي ظل صامدا.
جمع المفتي أعوانه في مدينة أوبيين التي كان يقيم فيها، وقال لهم: من يستطيع السفر فليسافر، وقرر هو وبعض أعوانه المقربين السفر إلى الجنوب، حيث كان من المعتقد أن تستمر مقاومتهم هناك. وطلب المفتي من البوري اصطحاب بعض الإخوان إلى إيطاليا التي دخلوها بداية عام 1945.
قصة القبض على موسوليني
يقول البوري إنه ذهب إلى ميدان لوريتو في مدينة ميلانو لرؤية موسوليني معلقا بعد إعدامه.
وقصة ذلك أن موسوليني انضم إلى قافلة ألمانية منسحبة، وكان يرتدي معطفا وقبعة ألمانية واندس بين الجنود الألمان أملا في الهروب قبل القبض عليه، إلا أن القافلة عند مرورها بنقطة تفتيش إيطالية، لاحظ متطوعون إيطاليون جنديا ألمانيا يشير بيده إلى إحدى السيارات، فصعدوا إليها فعثروا على موسوليني من بينهم وهو يحاول التخفي، فأنزلوه وقادوه إلى دار قريبة، وقرر الإيطاليون التعجيل بإعدام موسوليني وعشيقته كلارا بيتاتشي خشية تدخل الألمان المنسحبين وإنقاذه.