الجزيرة-
مرة أخرى، يعود الزمان قسرا إلى الوراء، وتشهد ليبيا من جديد انقساما سياسيا بعد نحو عقد من التناحر، وتمضي البلاد وأهلها إلى مفترق طرق قد يُعيدهم إلى “المربع صفر” الذي لم يبرحوه إلا قليلا. ففي الماضي القريب، احتدمت المنافسة بين برلمانَين متنافسَين، وثلاث حكومات، وبنكَين مركزيَّين، وشركتَين نفطيتَين وطنيّتَين، وعشرات الجماعات المسلحة؛ والآن تعاود الأحداث أدراجها إلى انقسام سياسي واقتصادي وجغرافي مُتجدِّد، إذ توجد حاليا حكومتان متنافستان، واحدة عيَّنها البرلمان، والأخرى تحظى باعتراف الأمم المتحدة، وتضغط كلتاهما لتكون صاحبة السلطة الشرعية، وتمتلك كلٌ منهما الموالين لها من المُسلَّحين، وكذلك الحلفاء الدوليون المؤثرون.
بدأ الاستعداد للصدام الأهلي الوشيك مبكرا بتصريح رئيس حكومة الوحدة الوطنية “عبد الحميد الدبيبة” بأنه لن يسمح بمرحلة انتقالية جديدة، ولا بسلطة موازية في ليبيا، وأن تعيين البرلمان حكومة جديدة يعني الحرب والفوضى في البلاد، لا سيَّما أن الطريق ليست مُمَهدة لإجراء الانتخابات الرئاسية التي فات موعدها. ومع إعلان رئيس الحكومة المُكلَّف من البرلمان “فتحي باشاغا” على لسان وزير داخليته بدء الترتيبات الأمنية لدخول العاصمة ومباشرة أعمالها من هناك، شهدت طرابلس دخول أرتال عسكرية ثقيلة تابعة للدبيبة، حيث تمركزت في الشوارع الرئيسية وتوجَّهت نحو المقار السيادية، بالتوازي مع إعلان حالة النفير العام. كيف عادت الأمور إذن إلى المربع صفر؟ وما المؤشرات على عودة الاقتتال في ليبيا؟
تعطيل وقف إطلاق النار
مع تنصيب مجلس النواب في طبرق حكومة باشاغا، ورفض الدبيبة التنحي عن السلطة، باتت ليبيا كلها في حالة الترقب، بما في ذلك المجلس الرئاسي نفسه الذي التزم الحياد بهدف مراقبة مصير الرجلين من بعيد، وانتظار تحوُّل الأمور لصالح أحدهما. وبينما تلوح في الأفق بوادر الانقسام السياسي والجغرافي من جديد، يبدو السيناريو الأقرب على الأرض هو تجدُّد الحرب الأهلية لعلها تحسم هذه المرة بالقوة ما عجزت السياسة عن حسمه بالوفاق.
على وجه الخصوص، تنطوي تحرُّكات الجنرال الليبي “خليفة حفتر” -كما كانت دوما- على الاستعداد العلني للحرب، لا سيَّما أنه رأس الحربة في تأجيج الاضطرابات، وقد ارتسمت معالم خطته بانسحاب أعضائه من اللجنة العسكرية الليبية المعروفة بلجنة “5+5″، وتضم خمسة من الموالين له وخمسة من الموالين لحكومة الوفاق. وقد علَّق الأعضاء المنسحبون أيضا اتفاق وقف إطلاق النار المُبرَم بين الطرفين في أكتوبر 2020. وتتوافق المواقف الجديدة مع رغبة الشرق الليبي بتغيير موازين القوى في البلاد عبر السيطرة على موانئ النفط ومنع تصديره، وإغلاق الطريق الساحلي وتعطيل الرحلات الجوية بين الشرق والغرب، وإيقاف جميع أوجه التعاون مع حكومة الدبيبة، ومن ثم استعادة حالة الانقسام السياسي والجغرافي والاقتصادي الكامل داخل ليبيا.
تُمهِّد التطورات الحالية إلى الدعوة الصريحة لانقسام المؤسسات الليبية السيادية التي ما زالت تلتزم الصمت حتى اللحظة، مثل البنك المركزي، الذي رغم كونه موجودا في قلب العاصمة طرابلس ويستحوذ على الجزء الأكبر من مدخرات البلاد، فإن وجود بنك موازٍ له في الشرق سيلعب دورا في تأكيد حالة الانقسام الاقتصادي. وفيما تلتزم مؤسسة النفط الحياد حتى اللحظة، فإن انقسامها مع استمرار الخلاف ليس مستبعدا. ويُخبرنا الماضي القريب أن الجنرال الليبي حفتر استفاد من حالة الانقسام تلك والفوضى المصاحبة لها عام 2014، وقاد عملية عسكرية حاول خلالها إسقاط العاصمة طرابلس، وهو طموح تصدى له بقوة حليفه الحالي، وعدوّه بالأمس، “فتحي باشاغا”، أحد صناع انتصارات الوفاق في معارك الغرب الليبي.
شقُّ كتائب مصراتة
حين أراد حفتر خوض معركة دخول طرابلس في مارس 2019، اعتمد خطة الهجوم من الجنوب، ومنه التف إلى الغرب متجاهلا أقرب نقطة من الشرق، وهي مدينة “مصراتة” التي تقعُ في الشمال الغربي، وتبعد عن طرابلس نحو 187 كيلومترا. كان من المنطقي بالنسبة إلى حفتر أن يسلك الطريق الأقصر، غير أن ذلك كان سيورِّطه في معركتين يستحيل عليه نظريا أن يحسم أيا منهما. ولطالما نُظر إلى المدينة على أنها حائط الصد أمام حفتر، فبخلاف كونها معقلا للمال ورجال الأعمال، فهي أيضا موطن أبرز الجماعات المسلحة في ليبيا، إذ تحوز المدينة الهادئة قوةً عسكرية هائلة جعلت الجميع ينظر إليها بأنها الورقة الرابحة في أي صراع للسيطرة على العاصمة.
اكتسبت المدينة هيبتها نظرا للسجل الحافل لكتائبها، وبخاصة انتزاعها طرابلس في أيام معدودات من كتائب القذافي، بخلاف إلحاقها هزيمة موجعة بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش”. وحين انقسمت ليبيا إلى ما يشبه بالدولتين عام 2014، انحازت المدينة التي تحمل وحدها نصف العتاد العسكري الذي خلَّفه القذافي إلى حُكَّام طرابلس، وأكدت سُلطتهم في البقاء، رغم أن غريمها في الشرق حاز في يده فعليا أغلب التراب الليبي. وقد وقف باشاغا في قلب تلك الأحداث آنذاك بوصفه ضابطا اكتسب نفوذه من انضمامه إلى المجلس العسكري لمصراتة، وأحد المؤسسين لكتائب “فجر ليبيا” ذائعة الصيت، حتى انتقل بعدئذ إلى العمل السياسي وزيرا للداخلية في حكومة الوفاق فائز السراج. ومن ثمَّ، ترسم هذه التحوُّلات الجديدة الآن المشهد الليبي، إذ تنحصر المعركة بين اثنين من أبناء مدينة مصراته، هُما “الدبيبة” و”باشاغا”.
من المنتظر أن تحسم كتائب مصراتة سيناريو الصراع الحالي، فرغم أن رئيس الحكومة ما زال مدعوما من قبائل وأعيان المدينة، الذين اعتبروا في بيان لهم أن تشكيل حكومة موازية تمكينٌ للانقلابيين، فإن مصراتة الآن ليست على قلب رجل واحد، إذ يمتلك باشاغا نفوذا سياسيا وعسكريا فيها قد يضاهي نفوذ القوى الموالية للدبيبة. وقد تعمَّد باشاغا الإعلان عن مقابلة مع عدد من أبرز قادة كتائب مصراتة في تونس، من بينهم آمر “شعبة الاحتياط” بقوة مكافحة الإرهاب، وآمر “كتيبة 166 للحماية”، في إشارة صريحة إلى أن المعادلة العسكرية متكافئة بين داعمي الدبيبة الذين يطالبون بطرح مشروع الدستور للاستفتاء، مع إجراء انتخابات برلمانية عاجلة، وداعمي باشاغا ممن يدعمون قرار البرلمان بحل حكومة طرابلس.
سياسة بلا أفق
بينما يرفض الدبيبة الاستقالة والتنحي عن السلطة، مستندا في بقاء حكومته إلى مُخرَجات ملتقى الحوار الليبي الذي رعته الأمم المتحدة وحدَّدت فيه مدة عمل السلطة التنفيذية الانتقالية بـ18 شهرا تمتد حتى يونيو القادم؛ يرفض البرلمان تلك الرؤية، ويُصر على سحب الثقة منه بدعوى فشل حكومته في المهام الموكلة إليها بمحاربة الفساد وتوحيد مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش، والأهم عجزه عن إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها في 24 ديسمبر 2021.
في ظل حالة الاستقطاب بين الحكومة والبرلمان، يتبقى في المشهد مجلس الدولة والمجلس الرئاسي، وهما جهتان سياسيَّتان محوريتان من الممكن أن ترسم أيٌّ منهما معالم الانقسام. بالنسبة إلى المجلس الرئاسي، فإن رئيسه “محمد المنفي” يلتزم الصمت حتى اللحظة، ويتمسك بلعب دور الوسيط لتجنيب ليبيا مصير الانقسام النهائي إلى حكومتين، مع أمل الوصول إلى مخرج للمأزق السياسي والدستوري، رغم أنه جاء إلى منصبه بالصفة الشرعية ذاتها التي أوصلت الدبيبة إلى الحكم (مباحثات جنيف). من جهته، يتخذ مجلس الدولة برئاسة “خالد المشري” -صديق باشاغا- موقفا ضبابيا غير واضح المعالم، فبينما يدعم الدبيبة شكليا (بعد إعلان مضطرب عن دعم باشاغا في البداية)، فإنه يبني دعمه على مخالفة البرلمان للاتفاق السياسي بضرورة أخذ رأي المجلس قبل اختيار اسم رئيس حكومة جديد؛ ما يفتح الباب لصفقات محتملة.
يزيد الأمور تعقيدا أن الانتخابات تأجَّلت إلى أجل غير مُسمّى، مع تأكيد الدبيبة أنه لن يُسلِّم السلطة إلا عبر انتخابات، إذ أكَّد الرجل مرارا أنه لن يقبل بأي صيغة أخرى للخروج من منصبة؛ ما يجعل الحل العسكري خيارا وحيدا لحسم الصراع بين الطرفين، وفرض واقع سياسي جديد بواسطة السلاح بعد فشل إجراء الانتخابات.
البرلمان يمتلك شرعية الحرب
بخلاف ذلك، يمتلك البرلمان الليبي، صاحب السلطة التشريعية المعترف به دوليا، أحقية قانونية لشرعنة أي صراع مرتقب، وتلك هي واحدة من أكبر أزمات ليبيا خلال عقدها المنصرم، فمن بوابة البرلمان انقسمت ليبيا عام 2014 إلى حكومتين متنازعتين عقب رفض البرلمان قرار المحكمة العليا، أعلى سُلطة دستورية، ببطلان الانتخابات. وعبر بوابة البرلمان عاد حفتر إلى بذلته العسكرية رسميا، وأدى القسم القانوني لتولي منصب القائد العام للجيش الليبي.
في ظل وجود حكومتين في البلاد، الأولى أدت اليمين أمام مجلس النواب، والثانية ترفض تسليم السلطة إلا لحكومة منتخبة، مع غياب تفعيل المحكمة الدستورية للفصل في ذلك الخلاف؛ لا يمتلك الدبيبة أي أوراق سياسية فعلية سوى الاعتراض قائلا إن خطوة البرلمان غير دستورية، لا سيَّما أن البرلمان لا يواجه تحرُّكا فعليا ضده من مجلس الدولة والمجلس الرئاسي، وهو ما يعني أن الكفة تميل سياسيا بالفعل لصالح باشاغا.
وقد فرض البرلمان رأيه سابقا وتجاوز الجميع فيما يخص ترتيبات إنهاء المرحلة الانتقالية من خلال خطوات تعديل الحكومة، ثم بدأ مشاورات خاصة لاعتماد القاعدة الدستورية، تليها القوانين الانتخابية، وهي خطوات يعارضها مجلس الدولة، لكنه فشل سابقا في عرقلتها فعليا، وحتى المجتمع الدولي نفسه فشل سابقا في الضغط على البرلمان لتثبيت حكومة الدبيبة، ويخشى الدبيبة فعليا من سطوة البرلمان لكونه يمتلك شرعية شن الحرب، وهي حرب قد لا تخرج نتائجها في صالح طرابلس بالنظر لما يشكله انضمام باشاغا إلى الشرق من إضعاف لجبهة الغرب، في حين تظل قوات حفتر على حالها دون انقسامات.
الأمم المتحدة تمنح الضوء الأخضر ضمنيا للانقسام
يبدو عجز الأمم المتحدة في الوصول إلى حل سياسي يُنهي حالة الصراع في الداخل الليبي جليا للجميع، فتأكيدها على الاعتراف بشرعية الدبيبة دون سواه لم يحل المشكلة، كما فشلت حتى الآن الوساطات الدولية والمحلية لمنع العودة إلى النزاع المسلح. وبدلا من ذلك، تجاهلت المستشارة الأممية بشأن ليبيا “ستيفاني وليامز” المُعضلات الأساسية، وطرحت مبادرة نصت على البدء الفوري بإجراء مشاورات بين البرلمان والمجلس الأعلى للدولة لوضع أساس دستوري ينقل البلاد إلى الانتخابات في أقرب وقت، دون أن تتناول الحشد العسكري من الطرفين في الفترة الأخيرة.
بينما تشهد ليبيا تنازعا بين شرعيتين، لم تتدخل الأمم المتحدة كعادتها للحيلولة دون تجدُّد الصراع العسكري، وهو ما حدث سابقا حين شن حفتر حربه على حكومة الوفاق السابقة المعترف بها دوليا، التي طالبت بفرض عقوبات على حفتر أو الدول الداعمة له دونما استجابة آنذاك. وفي ظل وصول الأزمة إلى طريق مسدود دون مبادرة سياسية حقيقية تجلب الفرقاء إلى طاولة المفاوضات والتنازلات، لا يبدو أن المجتمع الدولي في خضم انشغاله بصراعات أشد احتداما -مثل أوكرانيا- مُهتمّا بما يدور، وعلى الأرجح أنه سيتجاهل الصراع العسكري مرة أخرى على أمل أن يفرض المنتصر شرعيته السياسية في النهاية.
لا تكمن مشكلات ليبيا في النفط فحسب، ولا في تداعيات الثورة كذلك، بقدر ما تكمن في أن البلاد لم تبذل جهدا حقيقيا في بناء الدولة والمؤسسات؛ ما سيترك الخارطة الاجتماعية والسياسية والجغرافية مُجهَّزة للصراع الأهلي. قبل عام، فشل رهان السياسة في ليبيا، وانتصر الانقسام القبلي والعسكري، وحينما قرر الفرقاء اختيار حكومة مؤقتة ليست من بينها تلك الوجوه القديمة التي تحظى بالقوة السياسية والعسكرية النافذة، لم ينتهِ الانقسام، وظهرت مطامع جديدة لفرقاء جدد من ثنايا منظومة سياسية واجتماعية منحازة بطبعها للمساومات المحلية والقبلية، لا للحلول الوطنية الجامعة. على ما يبدو إذن أن الحل الوحيد الذي يرتضيه الجميع حاليا هو “الحرب الأهلية”، أملا في أن يظهر منتصر بشرعية جديدة في النهاية، تُنهي عجز السياسة عن صناعة الدولة في ليبيا.