كارنيجي-
ربما تتجه ليبيا نحو جولات جديدة من النزاع إثر إجهاض انتخاباتها مؤخرًا
قبل نحو عشر سنوات، في صيف العام 2012، توجّه المواطنون الليبيون إلى صناديق الاقتراع لأول مرة منذ أربعة عقود لانتخاب السلطة التشريعية الوطنية. شكّلت تلك المناسبة محطة مفصلية في مسيرة البلاد بعد إطاحة الديكتاتور الليبي معمر القذافي ومقتله على أيدي الثوّار المدعومين من حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أواخر العام 2011، لأنها كانت المرة الأولى التي قال فيها معظم الليبيين كلمتهم حول من يمثّلهم في الحكم.
كان كلانا* –مواطنٌ ليبي ومراقبٌ أجنبي– في ليبيا آنذاك، ونتذكّر جيدًا البهجة العارمة التي سادت في البلاد. فقد تزيّنت شوارع المدن بلافتات الحملات الانتخابية، ونظّم المرشحون تجمّعات في خيمٍ فسيحة، ودارت نقاشات سياسية شيّقة استمرت طوال الليل في المقاهي. وأمِل ليبيون كثر بأن تشكّل الهيئة المنتخبة نقطة انطلاق لتضميد الجروح العميقة التي خلّفها حكم القذافي السلطوي ومعالجة المشاكل التي تعانيها البلاد، مثل غياب المساواة في توزيع الإيرادات النفطية والنفوذ المطلق للميليشيات.
ذلك التفاؤل لم يكن في محلّه. فسرعان ما وقعت الهيئة التشريعية ضحية الخصومات الشخصية والإيديولوجية الشديدة، والسياسات الإقصائية، واستشرى الفساد على مستوى واسع. أصبحت كذلك الميليشيات ذات نفوذ أقوى، مستخدمةً العلاقات التي جمعتها مع السياسيين المنتخبين آنذاك. وبحلول العام 2014، اندلعت حرب أهلية في مختلف أرجاء البلاد، وساهمت القوى الإقليمية في تأجيج نيرانها.
لاحقًا، تساءل كثيرون عما إذا كان استعجال إجراء الانتخابات بعد الثورة خطوة متهوّرة وسابقة لأوانها، ولا سيما في ضوء غياب الشروط التي يجب أن تتوافر مسبقًا، مثل استتباب الأمن ووجود مجتمع مدني أقوى.
العام الماضي، وفي إطار تنفيذ خارطة الطريق التي وُضِعت بوساطة من الأمم المتحدة لإنهاء أحدث جولات الحرب الأهلية، دفع الليبيون وداعموهم الدوليون باتجاه إجراء انتخابات رئاسية في 24 ديسمبر لحلحلة مشاكل البلاد. ومجدّدًا، أدّت هذه العملية برمتها إلى تفاقم الانقسامات في ليبيا بدلًا من رأبها. لكن هذه المرة، كان الأساس القانوني للانتخابات موضع خلاف شديد. كذلك، ساد الخلاف حول نوعية الانتخابات وتسلسلها، فقد اختلفت الآراء حول ما إذا يجب إجراء انتخابات رئاسية أو برلمانية أو الاثنَين معًا، وتراتبية العملية برمتها. لذلك، لم يكن مفاجئًا أن تعمد المفوضية العليا للانتخابات في ليبيا، في 21 ديسمبر، إلى حل لجان الاقتراع في مختلف أنحاء البلاد، وإرجاء التصويت إلى أجلٍ غير مسمّى.
تدخل ليبيا الآن مرحلة جديدة محفوفة بالمخاطر، حيث يُعتبر احتمال اندلاع نزاع مسلّح بين الأطراف المختلفة مرتفعًا، في ظل انحسار آفاق تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي.
لاحظ أحد الكاتبَين، لدى زيارة العاصمة طرابلس الشهر الفائت، أن هذه الآفاق القاتمة تنعكس بوضوح في مزاج المواطنين. لقد قام أكثر من 2.5 مليون ليبي بالتسجيل للتصويت في الانتخابات، ولكن النقاشات الطويلة حول برامج المرشحين الإصلاحية في العام 2012 استُبدِلت بأحاديث تهكّمية عن الشوائب التي سادت المرحلة التحضيرية للانتخابات.
لم يؤمن معظم الليبيين أن الانتخابات ستؤدّي إلى كبح نفوذ الميليشيات. والآن، بعد إرجاء العملية الانتخابية، تستعرض هذه التشكيلات عضلاتها. في الأيام الأخيرة، علا صرير أرتال المدرعات التي تضم عناصر ينتمون إلى مجموعات مسلّحة، وتهافتت على العاصمة طرابلس مزوّدةً بمدفعياتها الثقيلة لترهيب خصومها، وقد عمد بعضها، في خضم ذلك، إلى محاصرة مقر الحكومة المؤقتة. ومن الدوافع خلف هذه التعبئة هو التنافس على قابلية التأثير على الحكومة في طرابلس، وعلى المؤسسات السيادية في البلاد، بعد تأجيل الاقتراع إلى أجل ٍغير مسمّى.
في ضوء إرجاء الانتخابات، تحاول الشخصيات السياسية البارزة، منها من يتحكم أيضًا في بعض المجموعات المسلحة، أن تشكل تحالفات لتتقاسم النفوذ وتحاصص السلطة. قد يتبلور ذلك عن طريق مساومات ضيقة لإعادة هيكلة الحكومة، إنما أيضًا، وعلى نحوٍ مقلق، قد تتم هذه العملية عبر ترهيب الخصوم باستعمال السلاح.
من أبرز هذه الشخصيات وأكثرها استقطابًا للجدل، الرجل المسؤول عن إطلاق الهجوم على طرابلس في العام 2019، لإطاحة الحكومة المعترف بها دوليًا والسيطرة على السلطة. وهو أيضًا من أبرز المرشحين للرئاسة. فلطالما أبدى خليفة حفتر، أمير الحرب السبعيني المقيم في شرق البلاد، ازدراءه لفكرة الديمقراطية في ليبيا، مُقدِّمًا نفسه في الداخل والخارج في صورة المنقذ العسكري للوطن.
من الشخصيات الجدلية الأخرى نجل القذافي، سيف، الذي اعتُبر إصلاحيًا في السابق لكنه يواجه الآن مذكرة توقيف صدرت بحقه عن المحكمة الجنائية الدولية. يحظى سيف بالدعم في أوساط المتعاطفين مع النظام السابق الذين يُعرَفون بـ”الخضر”، على الرغم من أن الانقسامات تسود صفوفهم. ويستغل سيف، أسوةً بحفتر، حنين المواطنين إلى الاستقرار السلطوي، وقد اختار العودة إلى الساحة السياسية الليبية من خلال ترشحه إلى الرئاسة بصورة مفاجئة.
أما عبد الحميد الدبيبة، رئيس الوزراء الحالي على رأس الحكومة المؤقتة في طرابلس، فقد اكتسب تأثيرًا متزايدًا خلال ولايته. وغالب الظن أنه سيحاول البقاء في السلطة، ما سيؤدّي إلى اعتراضات وربما أيضًا إلى أعمال عنف قد يقودها خصومه، ولا سيما أنه يناور الآن لترسيخ مكانه عسكريًا في العاصمة. الجدير بالذكر أن الدبيبة ترشّح إلى الرئاسة بعد وعود بأنه لن يُقدِم على ذلك، وحشد دعمًا شعبيًا من خلال لجوئه إلى تكتيك شعبوي تقليدي قائم على توزيع المال على المواطنين بشكل مفرط.
وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا هو أيضًا من القوى التي لا يُستهان بها. يتحدر باشاغا من مدينة مصراتة الواقعة على الساحل الغربي، وقد أثنى عليه المحاورون الغربيون واصفين إياه بأنه الأكثر براغماتية بين مرشّحي الرئاسة. وفي الأسابيع الأخيرة، أبرم تفاهمًا مع حفتر، خصمه اللدود سابقًا. ولكن هذا التحالف يصطدم بالواقع وبردود فعل واستهجان من قبل مجموعات مسلحة ومواطنين في غرب البلاد، وغالب الظن أن هذا الانقسام سيتسبب باندلاع نزاع مسلح إن طال.
في المرحلة المقبلة، ستواجه فرص تحقيق الاستقرار والوحدة على المدى البعيد في ليبيا تعقيدات إضافية عدة، أبرزها وجود آلاف المقاتلين والمرتزقة الأجانب المدعومين من تركيا وروسيا اللتين تدخلتا عسكريًا في ليبيا خلال حرب 2019-2020. من خلال هذا التدخل، فرضت أنقرة وموسكو نفسَيهما كوسيطَي نفوذ على الأرض، إلى جانب الإمارات العربية المتحدة، وبدرجة أقل مصر. يمكن أن يساهم هذا التأثير الخارجي، والتفاهم الناشئ بين خصوم سابقين في الشرق الأوسط، في الحؤول دون نشوب نزاع في مختلف أنحاء البلاد في العام 2022. ولكن في ظل غياب خريطة طريق واضحة تعيد تعريف الطريقة التي ستستعيد بها ليبيا شرعيتها الشعبية، لن يضمن هذا التقارب الإقليمي المؤقت الاستقرار في المدى الطويل.
في غضون ذلك، وفي أعقاب إرجاء الانتخابات، يبدو أن المجموعات المسلحة وداعميها السياسيين يضعون خرائط طريق خاصة بهم. إنهم يستغلون الفراغ الراهن من خلال الانخراط في مسارات حوارية متعددة، في ليبيا وفي العواصم الخارجية على السواء. لا شك في أن الكلام أفضل من الاقتتال، لكن، في كل الأحوال، هذه اللقاءات لن ترسي الأسس اللازمة لتسوية دائمة ذات ركائز مؤسسية في ليبيا، وذلك لاعتبارات أغلبها شخصية. في الحقيقة، جوهر هذه الحوارات محاولات لاقتسام غنائم التعيينات في القطاع الأمني وغيره من أجهزة الدولة لتطويل أمد الأزمة.
وقد دفع تأجيل الاقتراع أيضًا فصائل في مختلف أنحاء البلاد إلى دعم العودة إلى عملية صياغة الدستور لإعادة تحديد الإطار القانوني للانتخابات وضمان شرعيتها. وهذا بدوره قد يبدو تطورًا إيجابيًا للوهلة الأولى. ولكن النخب فرضت سيطرتها الكاملة على المسار الدستوري في جسمَين يُنظر الآن إليهما باشمئزاز في معظم أنحاء ليبيا، وهما المجلس الأعلى للدولة في الغرب ومجلس النواب في الشرق. وقد استخدمت هذه النخب سلسلة من الثغرات الإجرائية والقانونية لتأخير إقرار الدستور وعرقلة مسار الانتخابات، لأن هذه الخطوات تهدّد مواقعها في السلطة. وفي ظل استمرار هذه الألاعيب، سوف يتكبد المواطنون الليبيون جل المعاناة التي ستولّدها أزمة الشرعية. ويُرجَّح أنها مسألة وقت فقط قبل أن يضيق أحد التشكيلات المسلّحة ذرعًا بهذه الألاعيب أيضًا، ويرتأي أن مصالحه ستتحقق بشكل أفضل وأسرع من خلال استعمال القوة أو اللجوء إلى العنف.
بغية التصدّي لهذه المخاطر، على القوى الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة، التأقلم سريعًا مع الوقائع الميدانية والمتغيّرات في ليبيا. على واشنطن بالتحديد أن تأخذ بالدروس التي استقتها من ليبيا بعد سقوط القذافي. وتشمل هذه الدروس تجنّب الافتراضات الساذجة بشأن ما تستطيع الانتخابات الوطنية تحقيقه لوحدها، إنما أيضًا القبول بأهمية إعطاء الأولوية للانخراط بشكل جدّي في دعم المواطنين الليبيين، لا النخب فقط، من أجل رسم مسارٍ نحو التقدّم بالعملية السياسية.
في حين دعمت إدارة بايدن الاستعدادات التي أُجريت للعملية الانتخابية العام الماضي، يجدر بها الآن الانخراط بشكل مكثف في إرساء الأسس اللازمة لقيام دولة مدنية ديمقراطية وموحّدة في ليبيا – بكل ما لهذه الكلمات من معنى. ويشمل ذلك تعزيز الدعم المجتمع المدني، وضمان سيادة القانون والمساءلة، وتطوير استراتيجية فعّالة أكثر لكبح نفوذ الميليشيات وإعادة هيكلة القطاع الأمني والعسكري. والأهم، عليها مساعدة الليبيين من أجل تطوير أساسٍ قانوني راسخ للانتخابات المقبلة يحظى بموافقة جميع الأطراف، سواءً من خلال الدستور أو من خلال ميثاق مشابه، على أن يجسّد مبادئ المشاركة الشاملة والتمثيل الحقيقي، بدلًا من مواصلة الألاعيب القديمة للأطراف السياسية التي طالما فضّلت المماطلة والمساومات بين النخب واقتسام الغنائم.
صحيحٌ أن هذه العملية ينبغي أن تكون مملوكة من الليبيين، إنما يجب ألا تُستخدَم هذه الملكية كذريعة لتسليم مسؤولية قيادة العملية الانتقالية الليبية مجدّدًا لنفس الأطراف السياسية الفاسدة التي تسبّبت بتفاقم مشاكل البلاد وإطالة أمد أزماتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*يشير معدا التقرير إلى نفسيهما، وهما فريدريك ويري وعماد الدين بادي ،