العربي الجديد-
كشف تحقيق “العربي الجديد” عن عمليات تنقيب أثرية في الشرق الليبي الخاضع لسيطرة مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، والذي يتورط مسلحوه في نبش تلك المناطق وعرض ما يجدونه للبيع عبر صفحاتهم على موقع “فيسبوك”.
يشاهد الليبي أبوبكر الغيثي، عمليات نبش مستمرة للمواقع الأثرية في منطقة كرسة غرب مدينة درنة، من قبل مسلحين يستقلون سيارات تحمل شارة سرية تابعة لمديرية أمن درنة، (جزء من مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر)، شمال شرقي ليبيا، كما يروي لـ”العربي الجديد”، قائلا: “المرة الأولى، شاهدت 6 مسلحين من السرية يحملون آلات ومعاول ويقومون بالحفر بالقرب من المنطقة التي أعيش فيها، منتصف يناير 2021، اقتربت من المسلحين، وسألت أحدهم عما يحدث، “في حماية الجيش”، هكذا رد، لكني عرفت لاحقا من خلال أصدقاء بتكرار الأمر في وادي مرقص (الإنجيل)، والأثرون بالجبل الأخضر شمال شرقي ليبيا، بحثا عن الآثار”.
ما وثقه شاهد العيان الغيثي جزء من ظاهرة تنمو، إذ تغض السلطات الأمنية التابعة لحفتر الطرف عن أعمال مسلحي مليشياتها الناشطة في نبش الأراضي المشاع بمناطق الجبل الأخضر، وفق تأكيد السنوسي عطية، عضو جمعية إحياء التراث الليبي (تأسست بمدينة بنغازي في عام 2013) لـ”العربي الجديد”، واصفا عمل مصلحة الآثار والشرطة السياحية بـ “الشكلي”، بسبب القبضة الحديدية لمليشيات حفتر والتي لا يمكن لأي جهة مجابهتها.
لكن صالح البرعصي، مدير الدوريات بجهاز الشرطة السياحية وحماية الآثار بالحكومة الموازية السابق والتي كانت خاضعة لحفتر في الشرق الليبي، يرد على ما سبق بأن تجار الآثار يستغلون ضعف رقابة السلطة بالمناطق البعيدة، قائلا لـ”العربي الجديد”: “ليست لدينا مواقع محددة مسجلة لنشر فرق مراقبة بها لمنع التنقيب”، ويضيف أن جهاز الشرطة السياحية، لا يملك إمكانيات كافية لإطلاق دوريات تراقب مناطق الجبل الأخضر البالغة مساحته أكثر من 7 آلاف كيلومتر مربع.
خريطة المناطق المستهدفة بالتنقيب
تتوزع المناطق الأثرية شرق ليبيا على منطقة توكره بمدينة بنغازي، وفي مدينة البيضاء، وبلدة شحات بالجبل الأخضر وبلدة طلميثه شمال شرقي ليبيا، وفق شرح جمال الكاتب، أستاذ الآثار الكلاسيكية في كلية الآثار والسياحة بجامعة المرقب الحكومية، مشيرا إلى أن آثار تلك المناطق التي تعاقب عليها اليونانيون والبونيقيون والفارسيون والبيزنطيون، والرومان، لا تزال مدفونة تحت الأرض.
ويفترض أن تحمي مليشيات حفتر تلك المناطق، كونها المسيطر الوحيد على شرق البلاد، بحسب عطية، والذي يؤكد أن انحسار مراقبة جهاز الشرطة السياحية وحماية الآثار، وتوقف أعمال المسح وتحديد الأماكن المستهدفة، أديا إلى نشاط عصابات التنقيب عن الآثار في الأراضي المشاع، وهو ما يتضح في رواج التجارة غير المشروعة على مواقع التواصل الاجتماعي.
مخطوطات بالعربية والعبرية تمّ نهبها من ليبيا
ويعد “فيسبوك”، المنصة الأبرز للعرض والطلب على الآثار الليبية المنهوبة وفق ما وثقه معد التحقيق، ويؤكده تقرير الجمعية الأميركية للبحوث الخارجية (ASOR)، الصادر في 31 ديسمبر 2020، بعنوان “حالة التجارة غير المشروعة والنهب للآثار الليبية 2011-2020″، موضحا أن “الليبيين استخدموا وسائل التواصل الاجتماعي كسوق لبيع الآثار الليبية وأن بعضهم يعرض قطعًا أثرية للبيع على صفحاتهم الشخصية”.
ومن بين القطع الأثرية التي وثق التقرير الذي شارك فيه خبراء ليبيون، وأعد بدعم من المكتب الخارجي لسفارة الولايات المتحدة في ليبيا، صورة فسيفساء نشرها مستخدم في 25 يناير 2020، ضمن مجموعة على فيسبوك لتهريب الآثار تضم أكثر من 453 ألف عضو. وطلب المنشور استفسارات حول ما إذا كان الاكتشاف علامة على وجود كنز، وكانت الردود الأولى بأن ألواح الفسيفساء نفسها كنز، وعليه أن يحرص على عدم كسرها.
وتكشف معلومات الملف الشخصي العام للمذكور أن موقعه بنغازي. وصورة ملفه الشخصي تظهره بالزي العسكري، وتشير “الإعجابات” في ملفه الشخصي إلى الدعم لقوات حفتر. وقد تكون هذه البيانات تشير إلى أن كاتب هذا المنشور هو عضو في الجيش الوطني الليبي (مليشيات حفتر)” بحسب التقرير.
وتمكن معد التحقيق من توثيق صفحتين على فيسبوك تعرضان لقى أثرية للبيع، الأولى عرض فيها صالح اسويري (وهو ضابط بأركان البحرية التابعة لقيادة مليشيات حفتر) قطعا نقدية قديمة، على صفحة خاصة تحمل اسمه. والثانية تحمل اسم “بيع وشراء تحف وآثار قديمة في بنغازي” نشر فيها، شريف المسماري (يعرف نفسه بأنه عنصر في القوات الخاصة بمليشيات حفتر وينشر صورا أثناء مشاركات قتالية) صورة إبريق أثري للبيع، يقول إن تاريخه يعود إلى ما قبل 800 سنة. وعرض معد التحقيق المقتنيات الأثرية التي عرضها الضابط اسويري، على الخبير الكاتب، فأبدى ملاحظات أولية تشير إلى كونها أصلية وتعود للفترة الرومانية. نهب 9800 قطعة أثرية من المتاحف
خلال الفترة من 2011 وحتى 2020، تعرضت الآثار الليبية المخزنة في البنك التجاري الوطني بمدينة بنغازي، ومتاحف سوسة ومصراته، وبني وليد، للنهب، بما مجموعه 9800 قطعة من مواقع متنوعة، بما في ذلك مقتنيات كل من معبد أرتميس في مدينة قورينا بالجبل الأخضر وقصر الأعمدة الهلنستي Ptolemais في طلميثة.
وتم التنقيب عن الكثير من المنهوبات قبل الحرب العالمية الثانية، وتضمنت 364 عملة ذهبية و2433 قطعة نقدية فضية و4484 من العملات البرونزية (أغلبها من الفترات اليونانية، والرومانية والبيزنطية وبعض العملات المعدنية الإسلامية) والمجوهرات القديمة مثل الأقراط الذهبية وأعمال النحت ومنها النقوش ورؤوس التماثيل الصغيرة، وفق تقرير “حالة التجارة غير المشروعة (..)”.
9800 قطعة أثرية مسجلة سُرقت في ليبيا
إضافة إلى ما سبق جرى نهب 10 آلاف مسكوكة قديمة من البنك التجاري في بنغازي، وخمس أوانٍ فخارية من متحف مدينة سوسة شرق بنغازي في عام 2016، وتمثالين حجريين من متحف سلطان، شرق سرت في عام 2017، كما يؤكد عبد العال الصوي، رئيس قسم المسروقات السابق بمصلحة الآثار شرق ليبيا لـ”العربي الجديد”، مشيرا إلى أن مصلحة الآثار تتابع بالتنسيق مع منظمة اليونسكو والإنتربول، من أجل منع بيع الآثار الليبية المسروقة في الأسواق العالمية.
ويتم تهريب الآثار الليبية عبر الموانئ، وفق ما وثقه معد التحقيق، عبر محادثة مع موظف في قسم المناولة والتخزين بميناء بنغازي، طلب تعريفه بأحمد زين، حتى لا يكشف هويته الحقيقية ويتعرض لمخاطر أمنية، مؤكدا أن لديه القدرة على المساعدة في تهريب أي قطعة أثرية من خلال توصيلها إلى متن سفن بميناء بنغازي، حسب ما يقوله لـ”العربي الجديد”. وزود زين معد التحقيق عبر تطبيق “فايبر”، بصور للقى أثرية تم تهريبها، منها سيف عليه نقوش إسلامية، ومخطوطة لمصحف، ومخطوطة باللغة العبرية مع حافظتها الخشبية.
وعرض معد التحقيق تلك الصور على الخبير جمال الكاتب، والذي أكد بشكل أولي أن السيف يعود للفترات العثمانية في ليبيا بحسب نقوشه، أما المخطوطات فلا يمكن معاينتها من خلال الصور، إذ يتطلب الأمر معرفة نوع الورق والأحبار المستخدمة في كتابتها.
ومن بين طرق التهريب، منفذ السلوم الحدودي مع مصر أو عبر مطار بنينا الدولي في بنغازي، وفق تأكيد مراجع العبيدي، صاحب متجر لبيع المقتنيات القديمة والأنتيكات في بنغازي لـ”العربي الجديد”. ويعترف جبريل أحمد، مدير مديرية أمن مدينة مساعد، المشرفة على منفذ السلوم، بوقوع تجاوزات في السنوات الماضية، بسبب انشغال “القوات المسلحة” (مليشيات حفتر) في حربها على الإرهاب وحشد قوتها العسكرية والأمنية من أجل هذا الهدف، لكنه ينفي تساهل مسؤولي منفذ السلوم مع جرائم التهريب.
مسؤولية السلطات الحاكمة
استفاد لصوص الآثار من الانقسام الحكومي الذي أدى إلى ضعف جهاز الشرطة السياحية وحماية الآثار، ومصلحة الآثار والتي لا تستطيع مسح المناطق التي يحتمل وجود آثار فيها والتنقيب بشكل شرعي وتسجيل ما يتم العثور عليه رسميا، فضلا عن ضعف سيطرة الدولة وانشغال مختلف الأطراف بالصراع المسلح، بحسب الصوي، مؤكدا على وجود تداخل في الصلاحيات بين مصلحة الآثار والشرطة السياحية، إذ يلقي كل منهما بالمسؤولية على الآخر”، ويشير إلى ضرورة تحديد المهام والصلاحيات بين أجهزة الدولة المعنية بالآثار، ويقول: “يفترض أن تحدد مهمة مصلحة الآثار بالجانب العلمي والبحثي حول الآثار، وتُوكل مهمة حماية الآثار ومواقعه للشرطة السياحية”، مضيفا: “للقيام بذلك تحتاج لدعم كبير لإنجاز أعمالها”.
لكن بعد توقف حالة الحرب، لا يوجد مبرر لاستمرار نبش المواقع الأثرية، وفق عطية والخبير القانوني، أحمد المقصبي (محامٍ وأستاذ سابق في كلية الدراسات العليا للعلوم الأمنية التابعة لوزارة الداخلية)، والذي يقول لـ”العربي الجديد”: “تساهل السلطات حيال عرض الآثار على الإنترنت يزيد الظاهرة، وللأسف الانتهاكات المروعة بحق من يعارض مسلحي حفتر في الشرق الليبي تمنع أي محاولة جادة لوقف الأمر”، وبالتالي فإن القانون رقم 3 لعام 1994 لحماية الآثار والمتاحف، لا يمكن تفعيله بحسب المقصبي، والذي يتساءل كيف يمكن للجهات القضائية إثبات حالة الجرم بحق المهرب أو الذي يعمل على نبش المواقع الأثرية في حال كان من بين المسلحين، كما أن القانون لم يحدد وضع الآثار المنتشرة في الأراضي المشاع، ويلفت إلى أن قانون الآثار، لم يسم الجهة المشرفة على الآثار وحمايتها بل جعل تبعيتها للجنة الشعبية العامة (رئاسة الوزراء في النظام السابق)، مضيفا: “السلطات التشريعية عليها الاهتمام بالظاهرة وتطوير القانون وفي مرحلة لاحقة تفعيل آليات منع نهب تاريخ ليبيا”.