* كتب/ إبراهيم حميدان،
وأنا أصعد الميكروباص ذلك الصباح وأجلس على الكرسي في طريقي إلى وسط المدينة سمعت السيدة الجالسة على الكرسي أمامي تقول في صوت متوتر: “مع احترامي لناس القربولي”.. قلت لنفسي: يبدو أن السيدة غاضبة من شخص ما أو عدة أشخاص من منطقة القربولي…
تحرك السائق وران الصمت على الركاب داخل الميكروباص. رحت أتفحصهم: إلى يساري رجل ستيني، وأمامي شاب أفريقي في العشرينات من العمر، رث الثياب يضع سماعتين مرتبطتين بموبايل يمسكه في يده، وخلفي يجلس ثلاثة أفارقة. السيدة في الخمسينيات من العمر. بعد فترة من الصمت، رفعت هاتفها النقال وراحت تتكلم في الموبايل، سمعتها تقول بذات النبرة المتوترة: “بَرّي نَوضي عادل من النوم، وقوليلة يمشي يعفج سعاد طريحة”…
أشفقت على سعاد المهددة بالضرب من عادل الذي سيتم إيقاظه من نومه لإنجاز هذه المهمة.. تمنيت أن أستطيع أن أوقف هذا المشهد العنيف الذي سيحدث في مكان ما، بناء على تعليمات هذه السيدة المتوترة في هذا الصباح الجميل بغيومه وبأمطاره وبهدوئه بسبب العطلة، فاليوم سبت، والسيارات قليلة العدد في الشوارع، والأسفلت يلمع مغسولا بماء المطر التي هطلت فجرا…
عادت المرأة تتصل بامرأة أخرى فيما يبدو، لتكرر على مسمعها القرار الذي اتخذته منذ قليل: إيقاظ عادل لكي يعفج سعاد طريحة…
يبدو أن المرأة على الجانب الآخر كانت تناقشها في ذلك القرار الحاسم، وتحاول إثناءها عنه. ردت عليها المرأة الخمسينية: “قلت لك بري نوضيه توا”.. ثم أخذت تشرح الأسباب: “بيش نوريها كيف تبعثلي رسالة على الموبايل وتقولي: معادش تتدخلي في حياتي”.. كان صوتها يزداد حدة وسط صمت الركاب الذين كانوا يُنصتون لهذه القصة التي تسردها السيدة على مسامعهم دون قصد منها. أو هذا ما رجحته، فهي تتكلم تحت وطأة الانفعال الذي يسيطر عليها، غير مبالية بأن تصل خصوصياتها أسماع أشخاص غرباء عنها. هبط الركاب الأفارقة الجالسين ورائي وبقي الشاب الأفريقي العشريني يتابع الإنصات للموسيقى عبر سماعتي الاذنين، وصعد رجل عجوز في السبعينيات من العمر، ووجد الرجل السبعيني نفسه ينصت هو الآخر إلى قصة السيدة التي كانت في تلك اللحظة تتحدث عن طالبة قادمة من منطقة القربولي في سيارة ما لتمر على ابنة السيدة في البيت وتمكث معها هناك حتى موعد محاضرتها، أو محاضرتهما معا، فهما حسبما فهمنا نحن الركاب صديقتان وزميلتان في الجامعة. قالت السيدة: ”أنا كلمت السواق وقلت له ماينزّلش طالبة القربوللي في بيتي ويمشي بيها طول للجامعة، وتقعد تراجي محاضرتها لغاية مايجي موعدها، الدنيا فيها كل شيء، ومعادش زي زمان“.. قالت المرأة الجالسة أمامي للمرأة الأخرى التي تحدثها عبر الهاتف، واستطردت بعد لحظة صمت: ”ولازم الواحد يرد باله“.. وظلت تردد: ”لالالالالا هي كلمة واحدة“، رافضة فيما يبدو توسلات المرأة التي تتحدث معها على الجانب الآخر…
بعد لحظات، أنهت المرأة مكالمتها وراحت تتأمل حركة الشوارع فيما ظل الصمت يهيمن على الركاب. قال الرجل الستيني مستأنفا حسبما فهمت حديثا مع السيدة الخمسينية كان قد بدأه قبل صعودي إلى الحافلة: “بس يا أبلة زي ماقلت لك بكري ياريت لو تهدي أعصابك وتوسعي بالك“… وقاطعت حديثهما وأنا أصيح: “على اليمين ياسواق”.. كنت قد وصلت المكان الذي أقصده، فتوقف السائق على الفور وتحركت من مقعدي صوب الباب، وأنا أغادر الميكروباص، وأدفع للسائق الدينار المهترئ الذي سحبته من قاع جيب السروال. رأيت السيدة تلتفت إلى الوراء موجهة حديثها إلى الرجل الستيني قائلة له: ”ماهو الطالبة اللي جاية من القربوللي“.. لكنني لم أتمكن من الاستماع إلى بقية الكلام لأن الشاب الأفريقي العشريني أغلق الباب ورائي في جلبة وانطلق السائق بسيارته مسرعا، ورحت بدوري أقطع الطريق نحو الجانب الآخر، وأنا أفكر في سعاد وأتمنى ألا تتعرض إلى الضرب من عادل في هذا الصباح الشتائي الجميل.