نبش في الذكريات.. اجدابيا شارع بن عيسي ح(2)

* كتب/ وليد عمران محمد،
يعتبر شارعاً من أشهر شوارع المدينة، والأكثر تميزاً لما يحتويه من تاريخ عريق، حيث يعتبر الشارع الوحيد الذي لم يتغير اسمه منذ تأسيسه وحتى الآن..
وقد استعملت مواد أولية محلية، ويلجأ إلى الأخشاب، خاصة في الأبواب والأسقف والأعتاب، الشيء الذي يضفي على المنازل تنوعا جماليا، فبمجرد أن تقرع الباب الخشبي المزود بقطعة معدن برنينها السحري يفتح لك الباب الخارجي، فتنفتح أمامك جنة غناء، وتعبر الممر المسمى السقيفة فتشعر أنك انتقلت من عالم لآخر، من الباب العادي إلى داخل يشكل بيتا جميلا، تتنافس عناصر الجمال فيه، لتخبرك حكايا الحياة بشكلها الآخر، شكلها القديم لكنه الأجمل، يتمتع البيت بالهواء المنعش والبرودة في فصل الصيف، كما يتميز بالدفء والحرارة في فصل الشتاء، وذلك بفضل بنائه من الخشب والطين.
البيوت القديمة تبدو عادية ومتشابهة من الخارج، مراعة لشعور الفقراء وتعبيرا عن قيم التكافل والمحبة بين الناس، لكن الاختلاف كان يظهر داخل هذه البيوت من حيث الفخامة والامتداد، أما توجه أهل اجدابيا للسكن في بيوت حديثة، فجاء نتيجة التطور الاجتماعي والاقتصادي، وظهور مفاهيم استقلالية لكل أسرة، الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى هجرة البيوت العربية القديمة، واستبدالها ببيوت حديثة عادية خالية تقريبا من ملامح الجمال، وتلبية للعصرنة والحداثة.
في الماضي كانت تزين جدران البيوت من الداخل ببعض الرسومات كنوع من أنواع الديكورات البسيطة، رسومات تستلهم البيئة المحلية، وتأخذ من الطيور والغزلان ومن آثارها ملامحا لكسر رتابة البيوت، ووضع لمسة ترتاح لها النفوس والعيون.
في هذا الحي سكن على الرغم من صغر بيوته يملؤها حب وطيبة كبيرة، تجعل كل فرد من ساكني تلك البيوت يشارك جاره في الأفراح والأحزان.
في شارع بني عيسي وضع الزمان بصمته، التي لم تتغير مع مرور السنين للمشي بين هذه الجدران، حلوته حيث تبرز من الجدار وعلى مستوي السطح أعمدة خشبية تسمى بالقناطر، ولكنها مجتمعة تثير ولو للحظة صورة عن البيئة التي فقدناها للأبد،
أن الأيام الخوالي عودتنا من جديد، هذا ما يؤكده حي بن عيسي حيث يتجلى الماضي حقيقةً بكل ما فيه من تراث عادات وتقاليد وأناس عاشروا الماضي، فكلهم أصبح ماضياً تليداً وغدوا الآن حاضراً يتغنى في هذا الحي العتيق، عادة إلينا أيام الماضي، فأصبحنا نشاهدها حية على مرأى العيون، حتى الطرقات تناديك فتسحبك عنوةً، لتنعم بعطر شداها الأخاذ، الذي يتقاطر من تلك الشوارع الضيقة، ولابد أن تنتشي وأنت تشم رائحة اجدابيا القديمة، فيها نكهة الإحساس بالماضي المعتق.
وأنت تتجول بين شوارع اجدابيا ستزداد تعلقا وشغفا بما ستراه من مشاهد، وستشعر هنا في هذا الشارع وكأن المناخ قد تملك كل جوارحك، ليمتص منها عناصر التوتر، ويشيع منها السكينة والهدوء، مناظر وكأنها دعوة للمشاهد لينعم هو الآخر بهذه الأجواء، ليحظى بهذا الجمال في مأمن حياةً جميلة وهادئة، تلك هي ميزة السكن في هذه المدينة.
بين المباني تأخذ ناظرك بناية ترحل بك عبر الأزمنة وتلك هي زاوية سيدي شحات، هذا الصرح الديني الشامخ لأكثر من أربعة قرون، احتضنت جدران هذه الزاوية أجيالا كثيرة من طلبة العلم وحفظة القرآن الكريم، جدران المكان لازالت تؤرخ لذلك العصر الذهبي، يوم كانت الزاوية مقصد طلاب العلم، يتقاطرون عليها من كل حدب وصوب، وكانت إذ ذاك قبسا يهدي سبيل من تاه في دياجير الجهل والخرافات، كانت زاوية من الزوايا المتناثرة عبر ربوع الوطن الحبيب ليبيا، يعود تاريخها إلى العهد التركي، ليمتد إشعاعها عبر الأزمنة والعصور، بتعاقب الحضارة الإسلامية، هكذا كانت المعالم الدينية والزوايا في اجدابيا منبرا للإشعاع العلمي والديني، دخلت إلى كل القلوب دون استئذان، لتهب للزائر المحبة والنصح بتلقائية، وتفتح لطالب القرآن الكريم الفتح المبين في الدارين.
الزاوية كانت منبرا للعلم والعلماء ونبراسا يضيء طريق النجاح، لكل ما تتلمذ عبر هذه الزوايا القرآنية.
الزاوية وعلى الرغم من أنها كانت منارة للعلم والتاريخ والتراث على مدار قرن من الزمن، إلا إنها تعرضت للإهمال، فتصدعت جدرانها وانهارت أسقفها، وبقت فقط جدرانها سامقة شامخة في السماء، تروي لزوارها حكاية أمجاد وتاريخ اجدابيا.
زاوية سيدي شحات من بين الكثير من المعالم الدينية والتاريخية التي توثق لتاريخ اجدابيا وذاكرة أهلها، إذن، وجب علي الدولة إحياءها من جديد، تأسيسا لمستقبل أفضل، إن فرصة زيارة الزاوية هذه تستثير الخيال، وتجعل المرء يعود بذاكرته إلى الماضي التليد، فأهل اجدابيا يشعرون بالحنين إلى هذا الماضي البعيد المليء بشجونه وذكرياته الجميلة.
شكلت الرياضة البدنية ملمحا واضحا بهذا الحي، فهي نشاط معظم سكانه، وساحة التشاركية كانت تعد من معالم الحي المميزة، إضافةً إلى الساحات الأخرى.
بن عيسي الحي العتيق يرخي سدوله لينام بدفء وحنان، تنتشر أضواؤه في كل مكان، لتكرس المحبة بين القلوب.
لاتزال مهنة بيع الثلج تحتفظ بشخصيتها التراثية في مدينة اجدابيا، فمع ارتفاع درجة الحرارة يظهر باعة الثلج في الطرقات، وأمام المدارس، في ظل طقس ترتفع فيه درجات الحرارة، يشعر فيه الطلاب المتبضعين بالظمأ، فيلجأ أغلبهم إلى بائع الثلج ليرووا عطشهم، وكانت رؤية باعة الثلج تبعث على الارتياح أثناء الحر الشديد في أشهر الصيف.
و مع حلول فصل الصيف كان لعربة “الجيلاتي” أيضا وقعها الخاص على أذن العطشان، فالقصة تبدأ من رؤية عربة مليئة بالأنوار الجذابة والألوان البهيجة، وصولا إلى روائح تبعث في النفس الانسياق نحو عربة الجيلاتي التي تنبعث منها أصوات وأنغام جميلة، سواء كنت ماشيا أو راكبا للسيارة، لا يمكنك إلا أن تتوقف أمام عربة الجيلاتي، تبقى هذه العربة جزءا من التراث والذاكرة من زاوية المدينة القديمة .