
* كتب/ محمد اللديد،
التضخم ليس مجرد نسبة مئوية تُعلنها النشرات الاقتصادية أو مصلحة الإحصاء والمصرف المركزي، ليس خطًا صاعدًا على رسم بياني باهت كالذي درسناه في الاقتصاد.
التضخم هو تلك اللحظة التي يقف فيها الأب أمام واجهة المحلات ويُعيد حساب مشترياته مرارًا، يوازن بين ما يحتاجه أطفاله وما يسمح به “مرتبه” الهزيل. إنه الشعور بالخسارة الصامتة التي تلتهم القيمة الحقيقية لجهدك ومرتبك، ليتحول إلى عبء ثقيل لا يرحم.
في الأسواق اليوم، تستطيع أن ترى التضخم قبل أن تسمع عنه، تراه في يدٍ تتردد قبل أن تشتري، وفي سلةٍ أصبحت أخف مما كانت، وفي حسابات يومية يجريها الناس بصمت، في بلد يعتمد بشكل شبه كامل على الاستيراد، يتحوّل تغير سعر الصرف إلى موجة تصطدم مباشرة بحياة المواطنين، فيدفعون ثمنها قبل أن تُعلن البيانات الرسمية أو تُكتب التقارير الاقتصادية.
في ليبيا، حيث تتقاطع تعقيدات السياسة والاقتصاد، لا يرتدي التضخم قناع “الزيادة العالمية” فحسب، بل يتخذ طابعًا محليًا قاسيًا يضربه في صميم حياة المواطن. السؤال ليس “كم زادت الأسعار؟”، بل “من هو أول من جفَّت مدخراته على مذبح هذه الزيادات؟”
إن اليد الخفية للتضخم لا تضرب بشكل متساوٍ، بل تُميز بين ضحاياها، الثمن يُدفع دائمًا من جيوب الفئات الأقل قدرة على المناورة، الموظفون الذين يتقاضون رواتب لا تتحرك، بينما تتحرك الأسعار بشكل مستمر، هم أول من يشعر بثقل التضخم. الإيجارات في المدن الكبرى ترتفع، ومصاريف المدارس تتوسع، واحتياجات البيت اليومية تُثقل كاهل ميزانياتهم. كل زيادة في سعر السلعة لا تقابلها زيادة في راتبهم، فتتراجع قدرتهم الشرائية بشكل واضح.
فالتضخم يضع سياجاً من نار حول كل محاولة للنمو الاقتصادي، أو الاعتماد على المشاريع الخاصة، أصحاب المحلات والمشاريع الصغيرة يعيشون معادلة صعبة، كلفة البضائع الموردة بالدولار ترتفع، بينما قدرة الزبائن على تحمل الأسعار الجديدة محدودة، هذه المشاريع تقف في منطقة رمادية بين الحفاظ على الزبائن وبين القدرة على الاستمرار، ومع كل موجة تضخم، يصبح هذا التوازن أكثر هشاشة.
ويتحول قرار الشراء تدريجياً إلى خيار مستحيل، التضخم هنا التضحية -نعم التضحية- بنوعية الغذاء نوعية الدواء، التضحية بتقليص حصة الفرد من البروتين وزيادة النشويات، هذه الرغبة في التضحية ليست بدافع صحي أو ادخار، إنها تضحية إجبارية، لتوفير ثمن الخبز.
تواجه الأسر التي تعتمد على دخل واحد ضغطاً أكبر، التضخم لا يعني فقط ارتفاعاً في الأسعار، بل يعني إعادة ترتيب الأولويات بين الغذاء، الدواء، المصاريف المدرسية، العلاج وفي المناطق البعيدة، حيث ترتفع كلفة النقل، يصبح أثر التضخم مضاعفاً، تآكل القدرة الشرائية في صمت له ضحايا، هم أصحاب المعاشات الأساسية من أرامل ومطلقات ومعوقين، وغيرهم من الفئات الضعيفة، إضافة إلى المتقاعدين، فما يحصلون من المال الذي كان يلبي احتياجات أساسية قبل سنوات لم يعد يؤدي الغرض نفسه، التضخم يضرب هذه الفئة بقوة، لأنها تعيش على دخل ثابت تماماً، بينما تواصل الأسعار صعودها بلا توقف.
فالتضخم لا يرفع السعر فقط، بل يترك أثاراً عميقة، تراجع الادخار وقدرة الأسر على التخطيط للمستقبل، تآكل الطبقة الوسطى التي تمثل أساس الاستقرار الاجتماعي، ضغط نفسي ومعيشي يتراكم بصمت داخل البيوت.
قد يسأل سائل لماذا المواطن هو من يتحمل العبء الأكبر؟ فهذا يرجع إلى طبيعة الاقتصاد الليبي القائم على الاستيراد، حيث ترتبط معظم السلع بسعر الدولار. أي تحرك في سعر الصرف، أو تأخير في الاعتمادات، أو اضطراب في سلاسل التوريد، ينعكس مباشرة على الأسعار، وفي غياب آليات فاعلة لحماية الدخل الحقيقي للمواطن، يتحمّل المستهلك النهائي كامل الزيادة تقريباً.
من يدفع ثمن التضخم في ليبيا إذن؟ إنهم البشر العاديون، الذين يعملون بجد ويتطلعون إلى الاستقرار بعد سنوات من العواصف، إنهم أولئك الذين يعتمدون على الدينار الليبي لتدبير حياتهم اليومية، بينما يتعامل جزء من السوق بالعملات الأجنبية أو يربط أسعاره بها، هي دعوة لإعادة “القيمة” ليس فقط للعملة، بل لجهد وعرق ودموع كل مواطن ليبي يكافح بصمت ليعيش حياة كريمة.
التضخم ليس ظاهرة مالية بحتة، إنه حدث اجتماعي يعيش داخل كل بيت ليبي. الثمن لا يُدفع في البيانات الرسمية، بل في القرارات اليومية للأسر، وفي قدرتها على الحفاظ على نمط حياة كريم،
وفي الوقت الذي يحمَّل فيه المواطن العبء الأكبر اليوم، يظل السؤال مفتوحاً: ما الثمن الذي سيدفعه الاقتصاد على المدى الطويل إذا لم تُعالَج جذور هذا التضخم؟
فالمعادلة واضحة: حين يضعف المواطن، يضعف السوق، ويضعف الاقتصاد كله.



